زرقاء اليمامة
أكرموا مُعلميكم قبل فوات الأوان
لكلّ عمل يعمله الإنسان في هذه الدنيا (الفانية) أجران: أجر يحصل عليه في حياته الدنيا وقبل موته يعلمه ويعلم قيمته أيضاً وأجر يحصل عليه في الآخــــرة بعد مماته لا يعلمه ولا يعلم قيمته بل الذي يعلمه هو الله وحده وأما أجر الدنيا فهو نوعان أيضاً: أجر ماديّ يقبضه العامل بعد إتمام عمله وأجر معنويّ غير مدفوع الثمن يُخزّن له في ذاكرة الناس الذين عمل معهم ولهم إن كان خيراً أو كان شراً.

وهذان الأجران الأجر (المادي) والأجر (المعنوي) يكمّل أحدهما الآخر بمعنى أنه إذا زاد الأجر المادي قلّ الأجر المعنوي وإذا قلّ الأجر المادي زاد الأجر المعنوي فإذا قلّ الأجر المعنويَ فتغطيه الزيادة في الأجر الماديّ وبالعكس إذا قلّ الأجر المادي فتغطيه الزيادة في الأجر المعنوي فمثلاً الطبيب الذي يُعالجك هو الذي يُـقـدّر أجره وأتعابه ويقبضها منك مُقدماً فلا ينتظر منك أجراً معنوباً مقابل خدماته لك.

وكذلك المهندس الذي يبني لك بيتاً هو من يُـقـدّر أجره ويقبضه منك مُقدماً فلا ينتظر منك أجراً معنوياً وكذلك الصانع أو الحرفي عندما يصنع لك شيئاً أو يُصلح لك حاجة فهو الذي يُـقـدّر أجره ويقبضه منك سلفاً فلا ينتظر منك أجراً معنوياً على ما قدمه لك وكذلك التاجر هو الذي يفرض السعر الذي يريد على بضاعته فعندما تشتري منه بضاعته لا ينتظر منك سوى أن تدفع له ما يطلبه من فلوس مقابل ما إشتريت منه ولا يطلب شيئاً غير ذلك.

إلا المُعلم يا سادة يا كرام فهو العامل الوحيد الذي يُـقـدّر له أجره ولا يُـقـدّرُه لنفسه كغيره من العمال فيبقى ينتظر الشق الثاني من الأجر وهو الأجر المعنوي فإذا لم يحصل على هذا الأجر سيبقى في انتظاره إلى الأبد فقد يأتي وقد لا يأتي وغالباً لن يراه في حياته فهناك من تعمد ـ بقصد أو بدون قصد ـ نكران الجميل للمُعلم فمنهم من أنكر عليه مهنته وادعى بأنها ليست بمهنة ومنهم من نسيه ونسي دوره وفضله لا بل أخذ يتساءل: من هو المعلم؟.

أقول لهؤلاء الناس بكل بساطة: المعلم يا سادة هو من أوجدكم في مناصبكم والمعلم هو الذي علمكم الرماية صغاراً كي ترموه كباراً فأنتم يا سادة من جعل التعليم ليس بمهنة ولم تكتفوا بهذا الحد بل جعلتم من مهنته مهنة طاردة لمن يُحبها حتى أنها أصبحت مهنة لمن لا مهنة له عندما سيّستم التعليم وعينتم عيونكم إداريين ومشرفين على هذا المعلم بغض النظر عن تخصصاتهم وخلطم الحابل بالنابل لتتسائلوا بعدها أين هو المعلم؟ أينسى الإنسان معلمه يا سادة؟.

لم تكتفوا بذلك يا سادة يا كرام بل فصّلتم له تهماً جاهزة أكبر من مقاسه بكثير فأحد مدرائكم المُعيّنين عندما كان يختلف مع أحد مدرسيه كان يهدده بالطعن في وطنيته وحبه لوطنه فيتهمه بأنه يرفض تحية العلم فمن سيّس التعليم إذن أنتم أم المعلم؟ ولم تكتفوا بذلك بل جعلتم من المعلم لعبة تتندرون عليها أمام أبنائكم لا بل جعلتم المعلم يبدو كحارس البستان تهابه الطيور الضعيفة بينما تحط على رأسه الصقور ساخرة منه أتدرون لماذا؟ لأنه الشاهد الوحيد الذي يكشف زيفكم وغبائكم.

أما أنا فأصبحت أعيش في هذه الحالة نادماً على اليوم الذي عملت فيه مُعلماً إلى أن ظهرت في حياتي كوكبة عظيمة عربية أصيلة كنتُ قد علمتهم الإخلاص في مدرسة الإخلاص الأهلية في الكويت عام 1975 عندما تذكروني بعد هذه السنين الطويلة وتعرّفوا عليّ بواسطة الإنترنت وأصرّوا على أن يُعلموني الوفاء كبيراً كما كنت قد علمتهم إياه صغاراً فأرسلوا لي تذكاراً يُذكرني بذاك الزمن الجميل الذي كان قد مضى وكنت ظننته لن يعود ومعه لابـتـوب هديّة لي بعد أن علموا أنني لا زلت أكتب لهم حتى وإن كبروا.

عندها تذكرت أحد الأفلام المصرية القديمة وقد ظهر فيه أستاذ كان قد تقدم به العمر ولا زالت عنده مسؤوليات كبيرة وعليه أن يواصل العمل وماذا سيعمل وهو في مثل هذا السن؟ فبدأ يكتب كتاباً بقلم جف حبره بعد أن خانه بصره في اكتشاف أن القلم لا يكتب وبعد أن أنهى هذا الكتاب ذهب به إلى المطبعة التي يمتلكها أحد طلابه وعرض عليه صفحات بيضاء يحسبها المعلم كتاباً ووعده صاحب المكتبة خيراً ولما عاد إليه ليسأل عن كتابه أفهمه طالبه بكل أدب واحترام دون أن يجرح كبريائه وقال له: لقد نُشر كتابك يا أستاذي وها هو ثمنه ودفع له من جيبه الخاص ثمن الكتاب الوهمي وعاد معلمه إلى بيته مسروراً لأن كتابه كان قد نشر وأصبح يأكل من كد يده.
أمامكم أبنائي نموذجان للوفاء ورد الجميل لمعلميكم من جيلين مختلفين: صاحب المطبعة وكوكبة الإخلاص عليكم تقليدهم لتعويض معلميكم عن ظلم الحكومات لهم كي يستمر العطاء بين الأجيال المتعاقبة.
مـقـالات
ما فعله هذا الحمصي بنا وبأولادنا؟

كثرت مطالبنا وتوسعت وتشعبت كثيراً فأشغلتنا الدنيا وانشغلنا بها عن أولادنا وبدأنا نجمع الفلوس لتلبية متطلباتهم التي إصبحت كثيرة في هذه الأيام وتركناهم يطالعون الشاشات الصغيرة والكبيرة التي أصبحت موجودة في بيوتنا منفردين بلا حسيب أو رقيب!فتأثروا بما يعرض على هذه الشاشات وأثرت بهم وغيرت من تفكيرهم ومن قيمهم المتوارثة جيلاً بعد جيل خاصة المسلسل المشهور (Tom and Jerry) الذي كان قد اخترعه لنا السيد (وليام إبراهيم عبود حنا) وهو سوري الأصل عاش حياته في أمريكا وهو من مواليد مدينة حمص وعاش في الفترة (1911 – 2006) وفي هذا المسلسل جعل من الفار (جيري) بطلاً مغواراً وعرضه لأطفالنا على الشاشة الصغيرة صغيراً ذكياً مسكيناً يتيماً مسالماً يُصارعه قِط غبيّ ضخم الجثة عُدوانيّ النزعة شرس بطبعه سماه (توم)!.

مما جعل أطفالنا يتعاطفون مع الفار جيري ويشجعونه لا بل يفرحون عندما ينتصر على القط توم!ومنهم من أصبح يدعو له بالنصر بعد كل صلاة!ومنهم من يستطيع أن يميز توم من جيري قبل أن يميز خاله من عمه!والرسوم المتحركة ليست حلقة واحدة وتنتهي المُشكلة لكنها حلقات مُتسلسلة لانهائية يحقنون عقول أطفالنا بما يُريدون توصيله لهم من أفكار وتكرار مثل هذه الأفكار يُولد مشاعر وأحاسيس تتراكم في نفوس أطفالنا ويخزنونها في عقلهم الباطن ومع مضيّ الزمن تترجم هذه الأفكار والمشاعر والأحاسيس إلى سلوك عادي بالنسبة لهم!.

أما نحن فقد نسينا أو تناسينا أن الفأر في ثقافتنا عدوٌّ لدودٌ!نجسٌ ناقلٌ للأمراض القاتلة! لا يجتمع معنا في مكان واحد!وإذا دخل فأر بيتنا لا نكل ولا نمل حتى نخرجه منه حياً أو ميتاً!بعكس القط الذي هو صديقٌ أليف للعائلة كلها يأكل ويعيش بيننا!لا بل دخلت عجوز النار عندما حبسته في بيتها ولم تطعمه!وقص ثوبه عالم جليل كي لا يزعجه عندما وجده نائماً على ثوبه!ونكن له كل مودة واحترام حتى أن البعض يُكني نفسه أو يُكنى باسمه تيمناً بفضائله! فهو الذي يقوم مُتطوعاً بتنظيف المنزل من الفئران والحشرات التي قد لا نراها!وهذه المشاهد التي يراها أطفالنا تعطيهم قيماً جديدة غير مألوفة لدينا ما كنا لنقبلها لو كنا في كامل وعينا!وتكسر بالمقابل قيماً نريد زرعها في عقولهم!.

ومن أهم هذه القيم الجديدة التي تسللت إلى أطفالنا وامتدت إلى مجتمعنا كله ظاهرة العنف حيث أصبح الكثير منهم يفكر بحل مشكلاته عن طريق العنف كما يحل البطل جيري مشاكله المصطنعة مع القط المسكين توم!والأهم من ذلك كله أن أطفالنا أصبحوا مُقلدين للبطل جيري في السلوك السلبي وفهموا منه أنهم أحرار فيما يفعلون وفيما يريدون ومتى يشاؤون لا بل تساوى عندهم الصديق مع العدو!وقد ينتصرون للعدو ويساعدونه ويدافعون عنه ويرتمون في أحضانه تماماً كما نراه يحصل في حروبنا الداخلية!.

عندما يجلس طفلك أمام التلفزيون جرّب أن تكلمه في أي موضوعٍ تريد فلن يستمع لك لكنه يسمعك فقط!والفرق شاسع بين السامع والمستمع!فالسامع يُفرَض عليه السمع فرضاً وله أن يسمع أو لا يسمع أما المستمع فهو الذي يريد أن يسمع فيصغي جيداً ويستخدم حواسه الأخرى كي يستمع!ولو طلبت منه أن يقوم بعمل ما فلن يستجيب لك لأنه توحّد مع التلفاز وانفصل عن العالم!وأعفى نفسه من أية مسؤولية أخرى!لأن الجلوس أمام شاشة التلفاز غير مكلف ولا يحتاج منه إلى بذل أي جهد كالقراءة من كتاب أو كالرسم أو كأي عمل آخر!.

وانعكست هذه الرسوم المتحركة على العملية التعليمية برمتها!فقد أصبح طالبنا لا يُميز بين المعلم الذي يريد أن يُعطي وبين المعلم الذي لا يريد أن يُعطي!بل على العكس فقد أصبح معلمه المُميّز هو من يُضحكه ولا يُتعبه!وأصبح الطالب في المدرسة لا يريد أن يستمع لمعلميه!وإذا استمع لا يستجيب لما يُطلب منه!اللهم إلا إذا شرح المعلم ما سيأتي في الامتحان فقد يسمع!وفوق ذلك فقد تمرّد الطالب على القوانين المدرسية ووجد لذة في اختراقها!وأصبح غير مُكترث بما يدور من حوله!ولا يُميز بين الغث والسمين!.

وأصبح كل ما يطلبه الطالب من المدرسة هو النجاح فقط!وعليه أن يحصل على هذا النجاح بأي طريقة كانت دون أن يستمع للمدرس في الفصل!ودون أن يدرس في البيت! فلم يبق أمامه إلا التسجيل في مركز تقوية أو الاستعانة بالمدرس الخصوصي وعندما يفشل في تحقيق النجاح لم يبقَ أمام هذا الطالب إلا الغش في الامتحان لتحقيق هذا النجاح المزعوم وأصبح ما يبذله طلابنا من جهد في ابتكار طرق ووسائل الغش كفيلة بإنجاحهم لو اعتادوا على بذل الجهد وهم صغار!.

وأصبح الطالب ينجح بالغش ويقنع أهله بجدوى المركز الذي انتسب إليه أو بعبقرية المدرس الخصوصي الذي تتلمذ على يديه! لتستمر هذه اللعبة سنةً بعد سنة إلى أن يكتشفها امتحان الثانوية العامة فيجني كل طالب ما كان قد زرع!ويحصد الأهل السراب! ويكتشفوا اللعبة ولكن بعد فوات الأوان!وأخذت ظاهرة الغش تتعمق أكثر عندما تجد من يتطوّع من تلقاء نفسه ليغشش طالباً آخر لا يعرفه بحجة أن رسوبه في الامتحان حرام!وإذا لم يساعده فسيكون أنانياً!ولأن إغاثة الملهوف والمحتاج من شيمنا العربية الأصيلة!.
