
وأخيراً وليس آخراً وجد والدي عملاً له في مدينة عمان مدرساً للرياضيات في مدارس البتراء النموذجية في خلدا بعمان لكنه لم يجد لنا سكناً إلا في عوجان بمدينة الزرقاء واستدعانا لنقيم معه هناك وبهذا يكون قد تقرر سفرنا إلى عمان وسفرنا هذا سيكون خلال بضعة أيام وأول عمل قمنا به هو الحجز المسبق للسيارة التي ستنقلنا من مدينة سلفيت إلى الجسر محملين بنفس الأغراض التي كنا قد أحضرناها معنا من عمان وبهدايا غيرها من الأهل والأقرباء.

نسيت أن أقول لكم أنه في أثناء هذه الفترة القصيرة التي عشتها في مدينة سلفيت كان قد وقع بيدي كتاب للشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي لم أكن قد سمعت به من قبل فأعجبتني قصائده الوطنية وأهم ما قرأته له وتأثرت به بيت الشعر الذي كنت أراه ينطبق على حالتي: وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر ومنذ ذلك اليوم قررت في داخل نفسي أن لا أجعل من وطني حقيبة وأن لا أكون مسافراً لكن عندما أمتلك زمام نفسي وأصبحت أنتظر قدوم هذا اليوم على أحر من الجمر.

والأهم من ذلك كله كانت ليلة الوداع التي لن أنساها فقد حضر الأهل والأقارب والجيران والمعارف لوداعنا وهم محملين بهدايا الوطن فمنهم من كان يحمل معه الزيت والزعتر ليكون فطورنا اليومي ومنهم من كان يحمل معه أكياساً معبأة بالمرمية لتوضع مع الشاي وتعطيه طعماً مميزاً ومنهم من كان يحمل معه ورق العنب المكبوس في زجاجات بلاستكية ليكون جاهزاً للف عند الطلب صحيح أن مثل هذه الهدايا بسيطة لكنها تذكرنا بالوطن صباح مساء.

جاءتنا السيارة في تمام الساعة الثانية ليلاً لتنقلنا إلى الجسر وكان هذا الموعد لكي نضمن سفرنا وعلى هذا الجسر سننتظر حتى تصبح الساعة الثامنة صباحاً ويفتح اليهود هذا الجسر وتساءلت في نفسي مرة ثانية: هل يحدث هذا معي لولا حرب داحس والغبراء أي حرب الخليج؟ وبقيت تحت هذا الكابوس إلى أن قطع راديو السيارة التي ستنقلنا إلى عمان تسائلي مع نفسي بأغنية: يا ظريف الطول وقف تقولك رايح على بلاد الغربة وبلادك أحسن لك خايف يا محبوب تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا وأجهش الجميع في البكاء بمن فيهم أنا فأول مرة أشعر بدفء العلاقات الأسرية مما جعل السائق يصيح في الجميع قائلا: وحدوا الله يا جماعة عمان ليست غربة وأقفل الراديو فوراً.

وصلنا بيت عمي أبو العبد في مدينة الزرقاء ليلاً وبعد استراحة قصيرة هناك تناولنا خلالها طعام العشاء أخذنا والدي إلى السكن الجديد وإذا بها بناية هائلة يسكن فيها كل من هب ودب فهي تتسع لقرية كاملة في داخلها لكن المضطرّ يركب البحر فقد دفع والدي 500 ديناراً خلوّاً لشقتنا هذه ورممها بنصف هذا المبلغ لكنني وجدت في هذه القلعة أناساً مثلنا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتصادقت مع أولادهم.

وقبل أن أدخل المدرسة في مدينة الزرقاء كنت خائفاً وعندما دخلتها ازددت خوفاً عندما طلبوا مني تأدية امتحان في جميع المواد الأساسية كي يحددوا لي الصف الذي سأكون به وأنا منذ 15/1/1991 لم أمسك بيدي ورقة ولا قلماً وتبدلت في هذه الفترة علي أربعة مناهج مختلفة: الكويتي والعراقي والفلسطيني وسيكون الامتحان بالمنهج الأردني يا إلهي لكن الله دائماً يقف مع الصابرين إذا صبروا فيسر لي نائب المدير وبعض المدرسين الكرام الذين وقفوا معي وساعدوني في هذا الامتحان الذي كنت قد قدمته في مدرسة عوجان الأساسية ولا يسعني بعد هذه السنين إلا أن أقدم لهم أسمى آيات الحب والإحترام وإلى كل من وقف بجانبي في تلك الأزمة العابرة في حياتي.

نجحت في الامتحان الذي أدخلوني عليه ودخلت الصف التاسع بعدها ذهبت إلى غرفة الصف وجاء الأستاذ ليعطي حصته فقال له الطلاب أن في الصف طالباً كويتياً جديداً ـ هكذا كانوا يقولون عنا في الأردن ـ فقال الأستاذ: ليخرج هذا الطالب إلى اللوح فوراً قالها دون أن يرى شكلي وقبل أن أصله ضربني بالكف على وجهي وقال: أنت هنا يا ولد لست في الكويت واعلمْ أن زمن الرفاهية والدلع قد انتهى عليك أن تكون رجلاً بمعنى الكلمة حيرني هذا الكف ـ حتى هذه اللحظة ـ وأشعرني بأنني السبب المباشر لاندلاع حرب الخليج وبقيت حزيناً إلى أن انتهت هذه الحصة وكانت الحصة الأخيرة في ذلك اليوم المبارك.

خرجت من الصف كي أعود إلى البيت وكنت مُجهزاً بجميع أدواتي المدرسية فقام أحد الطلاب بخطف حقيبتي مني وتخاطف زملاؤه ما بها من قرطاسية وأدوات مدرسية كنت قد أحضرتها معي من الكويت وفهمت بعدها أنك إن لم تكن ذئباً فستأكلك الذئاب وعندما عُدت إلى البيت حضّرت دُروسي كاملة كعادتي القديمة وتذكرت الكويت وحرب الخليج وما أوصلني إلى هذه المدرسة اللعينة وهؤلاء الطلاب الشرسين فالفرق واضح بيننا وبينهم فألفاظهم كانت بذيئة وكانوا عدوانيين أكثر من اللزوم وعلى الفور أفردت دفتراً خاصاً من دفاتري وبدأت أكتب عن أحداث حرب الخليج وأعبر عن حبي الخفي للكويت لأنني لا أستطيع البوْح بذلك أمام من حولي فقد كان الجو مشحوناً ودون أن يعلم أحد منهم بذلك.

وما حيّرني في هذه المدرسة أكثر أن طلابها كانوا من (الكواسر) على الرغم أنهم أطفال صغار فلم أجد فيهم البساطة والبراءة التي كنت أجدها في طلاب مدارس الكويت على الرغم أننا من جنسية واحدة إلا أنهم أصروا على الابتعاد عني وكان من يقترب مني في الخفاء يكون حذراً وكأنه مُراقب عن بعد!والعجيب في الموضوع أن هؤلاء الطلاب كانوا قد استوعبوا من كان يُقيم في الكويت وحضر قبل الحرب أما من قدم بعد الحرب فنبذوه وابتعدوا عنه.
