
كانت المشكلة الكبرى لسكان هذه القرية منذ القدم هي عدم توفر الماء في حياتهم اليومية!لا ليرووا به مزروعاتهم بل ليشربوه كي يبقوا على قيد الحياة!وفي حالة توفر مثل هذا الماء فستظهر لهم مشكلة أخرى لكنها أسهل حلاً من المشكلة الأولى وهي كيفية حمل هذا الماء ونقله إلى أماكن العمل في الحقول والكروم الموجودة في الجبال والهضاب والوديان في المواسم المختلفة التي كانت تمر عليهم على مدار السنة وهم يعيشون في القرية!؟.

ولا بد لي من أن أذكر بالمواسم الكثيرة التي كانت تطل علينا أيام زمان ومنها موسم الحراثة وتجهيز الأرض لزراعتها بالمحاصيل الشتوية من قمح وشعير وعدس وفول وكرسنة والمحاصيل الصيفية مثل البندورة والخيار والفقوس والبطيخ والشمام والكوسا والقرع والبامية واللوبية والذرة الصفراء وعباد الشمس وكلها كانت تزرع بعلية ثم يأتي موسم التعشيب أي خلع الأعشاب من بين هذه النباتات وخاصة عندما تنمو ويشتد عودها وتكبر ومن ثم يأتي موسم الحصاد وهو خلع هذه النباتات من مكانها في الأرض بعد أن تجف ونقلها إلى البيدر وهناك يتم درسها أي فصل الحبوب عن قشها.

وهناك موسم جمع ثمار التين الناضج وتذبيله وتصنيع القطين منه ثم نقله إلى البيت لتخزينه أو بيعه وهناك موسم رش وتوريق شجر العنب وتغطية ثماره حفاظاً عليه من الدبابير والصمل ثم قطفه ونقله ثم بيعه أو تصنيعه وهناك موسم قطف ثمار الزيتون وجمعها ونقلها إلى البيت لعصرها ثم تقليم أشجاره ونقل حطبه إلى البيت لاستخدامه في في أيام الشتاء.

وكانت هناك مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها من هذه المشاكل التي كانت تواجه أهل القرى التي كانوا يعانون منها الكثير في المواسم المختلفة وكانت هذه المشكلة الجديدة هي كيف يسقون دوابهم التي كانوا يستخدمونها معهم في العمل كالحمار أو الحصان أو البغل أو البقرة أو البغلة أو الفرس؟فهي ستقضي اليوم كله معهم ولا بد لها من أن تعطش وعليهم أن يجدوا حلاً لهذه المشكلة الهامة التي لا تقل أهمية عن غيرها من المشاكل!.

وعلبه فقد تفتقت قريحة الآباء والأجداد لحل هذه المشاكل مجتمعة!فقاموا بحفر حُفرة في الصخر وسموها المُقُر بكافة المقاسات والأحجام وفي كل منطقة من المناطق التي كانوا يعملون بها أو التي يمكن أن يتواجدوا فيها لتخزين مياه الأمطار فيها!وهم بذلك قد أراحوا أنفسهم من صعوبة الحصول على الماء ومن صعوبة نقله وتخزينه وبعد أن يجف ماء هذا المَقِر كانوا يستخدمونه كوعاء لشرب دوابهم منه بعد ملئه بالماء!وهناك أنواع من هذه المقور حفرت خصيصاً في صخر صلب مميز كي يستخدمونها في عملية عصر زيت البدودية بعد أن يقوموا بشي ثمار الزيتون الناضجة وكمخزن لهذا الزيت بعد تغطيته وضمان سلامته ليوم أو يومين قادمين!

أما طريقة الشرب من هذا المقر فلها قواعد وأصول كانوا قد علمونا إياها آباؤنا وأجدادنا فكان عليك أن تنبطح أرضاً وتنام على بطنك وتمد رأسك فوق المُقُر وأن تشرب منه الماء دون أن تتنفس!وأفهمونا كذلك بأن من يتنفس وهو يشرب الماء من المقر سيتحول إلى حمار أو غزال أو أي حيوان آخر!فكنا نحن الصغار إذا تواجدنا في الخلاء وعطشنا كنا ننبطح أرضاً ونشرب من المَقِر وبعد أن نشرب نتفقد أجسامنا ونرى إذا كنا قد تحولنا أم بقينا كما نحن!؟وعلى الفور نحمد الله لأنه أبقانا على حالنا ولم يغيرنا!.

وقد يكون هذا المقر من صنع الطبيعة وما عليهم إلا تنظيفه فقط وهذا النوع من المقور موجود في معظم الأماكن الصخرية وقد يكون من صنع الأجداد أنفسهم كما هو موجود في بير العصفور فكانوا يملؤون هذا المقر بالدلو من البير ويسقون أغنامهم ودوابهم من هذا الحوض يومياً ويبقون كذلك إلى أن تجف مياه هذا البير فيتحولوا إلى بير المرج أو عين عادي أو بير الدرح وبعد أن وصلت الماء إلى البلد قاموا بصنع حوض بجانب الحاووز صنع خصيصاً لهذا الغرض!.

وهذه المقور جمع مقر سيتراكم فيها العلق والحيوانات والنباتات المائية الدقيقة الأخرى فكنا عندما نصل إلى أحد هذه المقور ونريد أن نشرب الماء منه نغسل أيدينا أولا ثم نغسل وجوهنا ثانياً ونبعد الماء عن أفواهنا بتفه للخارج خوفاً من دخول العلق أو هذه الحيوانات والنباتات المائية الدقيقة إلى أفواهنا فكان يخرج عن هذه العملية صوت مميز لا يفهمه إلا من عاش في تلك الأيام!.

ومن طريف القول أنه كان قد حضر حفيدي إلى بيتي في أحد الأيام ورآني وأنا أغسل وجهي على المغسلة وسمع مني هذا الصوت الغريب الذي يخرج مني حتى الآن بكل عفوية عندما أغسل وجهي فسألني عن هذا الصوت فقلت له:لا أستطيع يا جدي الآن أن أفهمك عنه شيئاً وأنت صغير في مثل هذا السن لكن عندما تكبر سأكتب لك كي تقرأ وتفهم كل شئ عن ما تسأل عنه الآن!.