المكان:الجابرية /الكويت
الزمان:23 نوفمبر 1990

أبو رحاب ضابط كبير في الجيش العراقي، (نسيت رتبته الآن)، عينته الحكومة العراقية ليكون مسؤولاً عن وزارة التربية والتعليم في الكويت، بعد احتلالها من قبل النظام العراقي، لكنني وإن كنت قد نسيت رتبته، لا يمكن أن أنسى مُسدّسه، وهو يتدلّى من وسطه، ولن أنس نياشينه العسكرية المُرصّعة على كتفيه وصدره، وخاصة عندما أصدر أمراً عسكرياً للأسرة التربوية في الكويت، للإجتماع بشخصه الكريم قبيل افتتاح العام الدراسي، في إحدى الصالات غير المُكيّفة في منطقة الجابرية، ولم ولن أنس كمّية العرق التي نزفت من جسمي في ذلك اليوم، ونحن في أواخر شهر أغسطس، حيث تتزايد الرطوبة في الكويت في هذا الشهر، ولا يمكن كذلك أن أنسى جوابه لنا (نحن المعلمون العرب الذين كنا نعمل في الكويت سابقاً وأصبحت المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق لاحقاً) عندما طالبناه بدفع مستحقاتنا المادية، ليذهب كل واحد منا إلى بلده.

أما جواب أبو رحاب لنا عندما طالبناه بدفع مستحقاتنا فكان: العراق كما تعلمون بلاد كل العرب، ومن يقول غير ذلك عليه مراقبة السفن، حتى ترسو على شواطئ الكويت لتحميل النفط، عندها فقط سنطلب منكم أن تأتون إلينا، لندفع لكم مُستحقاتكم، أما اليوم فعليكم الإلتزام بالدّوام المدرسي، في أوّل يوم من أيام العام الدراسي هذا، ومن يتغيّب منكم عن عمله، سيُحرم من مُكافئته المادية، ويُفصل من سلك التربية والتعليم، وسنعتبره من الخاسئين، ثم أكمل كلامه وقال: وليخسأ الخاسئون.

بالنسبة لي وأمثالي من المعلمين العرب في الكويت، كنا قد أسّسنا لحياتنا القادمة، ولم يكن لدينا سيولة تكفينا ذلّ السؤال، لو رفضنا هذا الوضع الجديد، وعُدنا إلى بلادنا، فهل يُعقل أن أعود إلى بلدي بعد هذا الإغتراب الطويل، وأمدّ يدي إلى من هم حولي؟لهذا قبلنا بالواقع المرير، وتحملنا من أجله كل المخاطر، أما أنا شخصياً بعد أن اتخذت قرار الصمود في الكويت، تعرّضت لهجوم آخر من الأهل والأصدقاء على هذا القرار، حتى أنّ أحدهم قال لي بالحرف الواحد: إذا كان أهل الكويت أنفسهم كانوا قد غادروها، فلماذا أنت باقٍ فيها؟.

ومع كل هذا الضغط التي تعرضت له من الأهل والأقارب، رفضت مغادرة الكويت، وانتظمت في دوامي، فعينوني مدرساً للرياضيات في ثانوية الجابرية بدلاً من ثانوية عبدالله السالم، وفرضوا نظامهم التعليمي على على التعليم في الكويت، ففي يوم 23 تشرين الثاني من كل عام، يتم اختيار الطالب (القدوة) في كل صف دراسي، على أن يكون هذا الطالب مُهذباً، ومُتفوقاً في دراسته، ومُتعاوناً مع زملائه، كي يكون جديراً بالثقة التي ستمنح له من قبل زملائه الطلاب في صفه، تحت إشراف مدير المدرسة، ومعه معلمون آخرون بعد أن يُنظمون محضراً رسمياً بذلك.

وكان في الصف الذي كنت أدرسه، طالب مُسجل عندي في كشف أسماء طلاب الصف، إلا أنه لا يداوم أبداً، حتى أنني لم أر وجهه مطلقاً، وقد صادف غيابي عن المدرسة في يوم الانتخابات التي كانت قد أجريت بين طلاب هذا الصف، الذي كنت أدرّسه، فقد غادرت المدرسة لأمر يخصّني في ذلك اليوم المشهود، وعندما عدت في اليوم التالي سألت عن الطالب الفائز بلقب القدوة، فقالوا لي: إنه فلان الفلاني الذي لم يُداوم أبداً، وقد فاز بالتزكية، وبدون مُنازع. حيّرني الأمر واختليت بطالب مُجتهد خلوق، أرشحه ليكون الطالب القدوة، وسألته عن الذي حصل بالأمس، وكيف فاز فلان الفلاني بالتزكية؟ فقال لي هذا الطالب:

عندما سمع فلان هذا عن منصب الطالب القدوة وامتيازاته، حضر في يوم الإنتخابات فقط، وأغلق علينا الباب، وقال لنا: اسمعوا وعوا جيداً أيها الرفاق، أنا لست قدوتكم، ولن أكون كذلك، ولكني أعدكم إذا انتخبتموني أن أقف في وجه المدير والمدرسين، وأحصّل لكم حقوقكم منهم بالقوة إذا لزم الأمر، أما إذا انتخبتم القدوة الحقيقي، فسيكون مؤدباً معهم، ولن يستطيع مُجابهة الإدارة والمدرسين، وبالتالي ستضيع حقوقكم، وأنتم أحرار فيما تختارون، ثم جاء المدير ومعه طاقم الانتخابات، وانتخب طلاب الصف فلاناً هذا، وسجلوا في المحضر الرسمي أنه فاز بالتزكية.
