كيف اصطادني موظف الدفاع المدني؟


المكان : عوجان / الزرقاء
الزمان : أكتوبر 1991
untitled
شاب يرتدي الزيّ العسكري ومعه جهاز تلفاز كبير الحجم 

في أحد ليالي الخريف الباردة، بينما كنت قادماً من مدينة الزرقاء، متجهاً إلى حيث أسكن في عوجان، مررت في طريقي على مركز للدفاع المدني هناك، وإذا بشاب يرتدي الزيّ العسكري، ومعه جهاز تلفاز كبير الحجم، يقف على الشارع، ويشير إليّ بيده بالوقوف، فوقفت. أطل عليّ برأسه من نافذة السيارة، وقال: مساء الخير، ممكن أن تأخذني في طريقك إلى عوجان، لأنني لم أجد سيارة تنقلني إلى هناك في هذا الليل البارد؟فأجبته: مساء الخيرات، للأسف الشديد، لا يوجد لك مكان في السيارة كما ترى، فزوجتي بجانبي، وأولادي الثلاث في الكرسي الخلفي، فما كان منه إلا أن نظر في داخل السيارة، وعندما تأكد مما قلته له قال: شكراً جزاك الله خيراً، وواصلت المسير.

imagesCA9C1AAJ
وإذا بأحد أولادي يقول حرام عليك ما فعلته بهذا الرجل 

بعد أن تحركت مُتجهاً بسيارتي إلى البيت، وإذا بأحد أولادي يقول: بابا، حرام عليك ما فعلته بهذا الرجل، كان بإمكانك أن تجلسه معنا على الكرسي الخلفي، ويضع تلفازه فوق رجليه، فالمشوار قريب. راجعت نفسي في الحال، واستجبت لطلب ولدي، ورجعت بالسيارة للخلف، وقلت له: تفضل واركب في الكرسي الخلفي مع الأولاد، وضع تلفازك فوق رجليك، وامسكه بيديك. ركب الرجل، ومعه تلفازه الكبير، وما هي إلا دقائق معدودة، وإذا بنا قد ووصلنا البيت، فلم يُسعفنا الوقت للتعارف، وحمل تلفازه، ونزل من السيارة، دون أن نعرفه أو يعرفنا، لكنه استنتج لوحده، أننا من الذين كانوا قد قدموا من الكويت بعد حرب الخليج لربما لطيبتنا أو قل سذاجتنا.

untitled1191
موظف في الدفاع المدني 

في اليوم التالي، حضر هذا الرجل إلى البناية التي كنت أسكن فيها، وسأل أحد السكان عني، قائلا له: أبحث عن رجل يملك سيارة من نوع لادا بيضاء اللون، يسكن هنا في هذه البناية، وهو من القادمين الجدد من الكويت، أين شقته؟دلّه من سأله عن شقتي، وإذا بالرجل يدق عليّ الباب بلباسه العسكري، ففتحت له الباب، وبدأ يُعرّف على نفسه: بأنه فلان الفلاني، وهو من عائلة مرموقة في جنوب الأردن، ويعمل موظفاً في الدفاع المدني، وقد جاء خصيصاً ليشكرني، على ما فعلت معه البارحة.

488132_3247622567798_458702608_n
رحبت به كعادتنا في اكرام ضيوفنا

أدخلته إلى بيتي، ورحبت به كعادتنا في اكرام ضيوفنا، وبعد اتمام مراسم الضيافة، وقبل أن يستأذن بالانصراف قال: من عاداتنا نحن العرب أن نقابل المعروف بمثله أو بأحسن منه، فأنا جئت لأقدم لك دعوة مفتوحة، لزيارتي في بلدي في الجنوب، كي أستطيع أن أكرمك، على ما فعلته معي بالأمس، قلت له: ما فعلته معك، كنت قد فعلته مع غيرك، فلماذا أنت تُكبّر الموضوع أكثر من اللزوم؟ أنا اليوم قضيت لك حاجة، بالمقابل عليك أن تقضي لغيرك حاجته عندما يحتاجك، وبهذه الطريقة تكون قد أكرمتني.

504765180_136
شركة الورق والدفاتر الأردنية 

قال: حسناً، سأبدأ بتطبيق ما تقول من هذه اللحظة، فأنا من مهامي الوظيفية أن أفتش عن الشركات المخالفة لقواعد السلامة، وكل شركة أزورها يعطونني هدية، مما يصنعون أو يبيعون، وحظك اليوم، أنني قادم من شركة الورق والدفاتر الأردنية، وأخرج من الكيس الذي يحمله بيده، مجموعة من الدفاتر من كل الأنواع والأحجام، وقال: هذا ما أستطيع تقديمه للأولاد مؤقتاً، وفي القادم من الأيام، سيكون العطاء أكثر، فخجلت من هذا الرجل، وصادقت على المثل الذي يقول: اعمل خيراً، وارم به في البحر.

توصيلة
لا تقف بسيارتك لمخلوق يقف على الشارع

عندها تذكرت قضية خلافية، بيني وبين بعض الناس، فالبعض كان يقول: لا تقف لمخلوق واقف على شارع، وتركبه في سيارتك، لأنك لا تعرف من يكون هذا الشخص؟ فإذا كان قاتلاً، فستكون شريكاً له في القتل، وإذا كان سارقاً فستكون شريكاً له في السرقة، وسمعتهم يكررون مثل هذه العبارة مراراً وتكراراً أمامي، لكنني من أصول فلاحية، ولم أقتنع بهذا القول تماماً، على الرغم أنني أؤمن به نظرياً، لكنني عند التطبيق العملي، لا أستطيع تطبيقه، وجاء صاحبنا هذا ليدعم رأيي، فقد كسبت صديقاً خلال دقائق معدودة، وأصبح يزورنا كل أسبوع حاملاً معه دفاتر وأشياء أخرى، وتوطدت العلاقة بيننا حتى أنها أصبحت صداقة.

577510_307132912714820_2100195308_n
وإذا به يطلب تسعون ديناراً 

وفي أحد الأيام، وإذا بصاحبنا يتصل تلفونياً، وأنا في العمل قائلا: أريد تسعون ديناراً لإخراج أحد أولادي من المستشفى، وبعد أن أنهيت عملي، لم أذهب إلى البيت كالعادة، بل ذهبت إلى مكان عمله، فوجدته يقف مع أربعة من رفاقه. سلمت على الجميع، وعندما جاء دوره في السلام، وضعت الفلوس في يده، دون أن يشعر من كان يقف معه، حفاظاً على مشاعره، واستأذنت، وعدت إلى البيت. ومضى أسبوع، ولم يحضر، وشهر ولم يحضر، وشهران ولم يحضر، فحملت همّه، وذهبت أسأل عنه في مكان عمله.

images

وعندما لم أجده في مكان عمله، سألت المسؤول عنه، ففاجئني حين قال: إن صاحبك نصّاب، وانتهت خدماته من عندنا منذ زمن، ولا أعلم مكانه الآن، لكنني أعرف قريباً له، يعمل في مكتبنا في شارع الجيش بالزرقاء، قد يفيدك عن مكان تواجده. لم أصدق هول ما سمعت، وذهبت في الحال، وسألت عن قريبه في شارع الجيش، فقال لي نفس الكلمات التي قالها مسؤوله. فاندهشت مما حدث، لكن ما أدهشني أكثر في قصة هذا الرجل قناعته، فقد اكتفى بتسعين ديناراً فقط لا غير، وبقي السؤال المحير لي هو: لماذا لم يطلب مني هذا النصاب أكثر من ذلك؟.

مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج

رأي واحد حول “كيف اصطادني موظف الدفاع المدني؟

أضف تعليق