
هذه أسطورة من التراث الشعبي الفلسطيني مما ترويه الأم عادة لأبنائها قبل أن يُراودها الشكّ في أنها ستصبح في يوم من الأيام حماة أسوقها لكم كي يعرف من يريد أن يعرف الأرضية التي كنا نفكر بها كمجتمع وكي يرى الجيل الحالي ما كانوا يحقنون به عقول أطفالهم من خرافات اجتماعية لا زال الجميع منا يدفع ثمنها حتى يومنا هذا وكي يعلم من لا يعلم أن العلاقة بين الحماة والكنة ليست وليدة للمسلسلات العربية التلفزيونية كما يحبّ أن يدّعي البعض إنما هي إرث قديم يُرضعونه مع الحليب لأطفالهم وهم صغار خاصة في الماضي عندما كانت الحكايات هي المصدر الوحيد للمعلومات وفي إحدى ليالي الشتاء البارد طلب الأولاد من أمّهم أن تروي لهم حكاية آخر الليل وهم مُتحلقون حول كانون النار فقالت:

كان يا ما كان في قديم الزمان امرأة توفي عنها زوجها وتركها وحيدة مع ولدها الوحيد بعد أن رفضت هذه المرأة أن تتزوج مرة ثانية كي لا يشاركها أحد في حب ابنها ونذرت نفسها لخدمته إلى أن كبر هذا الولد وأصبح شاباً أما أمه فلا زالت تكابر وتنفي عنه هذا الواقع الجديد وتصر على أن ابنها لا زال صغيراً في السن بينما كل امرأة في الدنيا تحب أن يكبر ابنها إلا هي لماذا؟لأنها تخاف عليه أن يتزوج ويبتعد عنها وتبقى وحيدة فهي تغضب ممّن يطلب منها أن تبحث له عن عروس وبقيت على موقفها هذا حتى تزوّج كلّ من هم في سنه من شباب القرية ولم يبق في القرية غيره أعزباً من الشباب.

لكن الأم كانت قد اقتنعت أخيراً بأنها كلما تأخرت في زواج ابنها ازداد الأمر صعوبة لهذا فقد بدأت تبحث له عن عروس تناسبها قبل أن تناسبه فلم تجد بنتاً في القرية تقبل بالزواج من ابنها غير «بدور» وهي لا عيب فيها سوى أنها تحب أخيها بل تموت به حباً بعد أن توفي والداها معاً وتركوا لها أخاً أصغر منها وأوصوها بأن لا تفارقه أبداً حتى يكبر مهما كانت الأسباب والظروف فكيف لها أن تتزوج وتترك أخاها وحيداً؟لهذا اشترطت على من يطلبها للزواج أن يستضيف أخيها معها في بيته فلم يقبل أحد من سكان القرية بهذا الشرط حتى الأمّ وابنها.

ما الحل إذن؟ سؤال كبير بقي يُحيّر بدور ويقلقها على مستقبلها واستمرت على هذا الحال إلى أن فشلت في ايجاد حل يناسبها فقررت أخيراً أن تستشير أحد كبار السن ممن تثق بصواب رأيهم فأرشدها من استشارته إلى أن تذهب لساحر يُحوّل أخيها إلى غزال وعندها سيقبل من يطلب يدها للزواج بأن تقتني في بيته غزال لكنه لن يقبل أن يكون معها أخ لها يعيش في بيته واقتنعت بدور بالفكرة وسألته عن مكان هذا الساحر ودلها عليه.

وفي اليوم التالي ذهبت بدور إلى الساحر كي تستوضح الأمر منه فتعهد لها هذا الساحر بأن يُحوّل أخيها إلى غزال لكنها إذا قبلت وحوله لا يستطيع أن يعيده مرة ثانية إلى إنسان واحتارت في الأمر أكثر لكنها وجدت أنها لو وافقت لضمنت لأخيها أن يرافقها مدى الحياة حتى ولو كان على صورة غزال وتكون بذلك قد خففت من شروطها قليلاً فقد يُقبل عليها العرسان في الحال أما في حال عدم موافقتها على هذا الحل فستبقى هي بدون زواج وسيكبر أخوها ويتزوج وسينسى أخته مع الأيام وتبقى هي وحيدة طوال عمرها فطلبت من الساحر تحويل أخيها إلى غزال.

وحوّل الساحر أخيها إلى غزال يركض وراءها وعندما سمعت الأم وابنها في الخبر وافقا على شرطها ولكن على مضض وتزوّجت بدور من ابنها وفجأة تحقق ما كانت تحسب له الأم ألف حساب فقد وجدت نفسها تنام وحيدة في غرفتها وابنها ينام في غرفة ثانية مع امرأة غيرها فجُن جُنونها وقررت الإنتقام من هذه المرأة التي أخذت ابنها منها وجعلتها وحيدة ولكن على طريقتها الخاصة وانشغلت الأم في الغزال لأنه سيكون الشاهد الوحيد على ما سيحدث مُستقبلاً بينها وبين كنتها وما ن داهم الفقر والجوع أهل القرية فاقترحت الأم مراراً وتكراراً على ابنها أن يذبح هذا الغزال ويأكلوا لحمه.

رفض إبنها ذبح الغزال لأن ذبح الغزال لا يحل المشكلة وقال:عليّ أن أسافر للخارج وأبحث عن عمل هناك لكن هذا الحل لم يرض زوجته ولا أمّه وعلى الرغم من ذلك سافر ولم ينتظر مُوافقة من أحد وكان في فناء المنزل ساحة كبيرة يتوسطها بئر ماء له باب حديدي سحّاب يُفتح ويُغلق عند اللزوم يجلسن الجارات حوله يحتسين الشاي ويتبادلن أخبار نساء القرية فما كان من الأم إلا أن خلعت باب البئر هذا وغطته بحصيرة من القش وقامت بتجهيز الشاي ودعت جاراتها لاحتسائه فوق هذا البئر.

تأخرت بدور ولم تحضر في الوقت المناسب فاضطرت حماتها إلى أن تنادي عليها كي تجالسهن فردّت عليها بدور وقالت لها بأنها مشغولة بتمشيط شعرها الآن فقالت لها حماتها: تعالي ومشطي شعرك عندنا في هذه الشمس المشرقة فأطاعت بدور حماتها وبكل سذاجة أجلستها في الوسط والجارات على أطراف الحصيرة وعندما انتهت الجلسة قامت الجارات مرة واحدة فسقطت بدور في البئر والمشط بيدها والجارات شهود على أنها سقطت في البئر لوحدها.

تذكرت الأم أن الغزال هو الشاهد الوحيد على فعلتها هذه فقرّرت ذبحه وبدأت تشحذ سكينها من أجل ذلك وعندما شعر الغزال بذلك استنجد بأخته بدور باكياً وهو يقول بلحن حزين:يا اختي يا بــدور … سنـّولي السكاكين … واغــلولي القدور وعندما سمعته أخته وهي في قاع البئر ردت عليه بلحن أكثر حزناً وقالت:ايــش فــيــدي عــلــيــك يــاغـــــزال …. أنــا الآن موجودة في قاع البير … والمشط بين يديّ … وشعري يُجللني … ولا أسـتطيع أن أعـمـل لــك شـيـئـاً فبلغ أنت من عندك من تستطيع تبليغه.

وفي اللحظة المناسبة يأتي الزوج لتبدأ أمه بالبكاء والعويل على وفاة زوجته في غيابه وقالت له:لآن يا بُنيّ لا بد من ذبح هذا الغزال الذي سوف يبقى يُذكرك بزوجتك إذا نسيتها فما كان من ابنها إلا أن استسلم أخيراً للأمر الواقع وبدأ يشحذ سكينه من أجل ذلك وعندما همّ بذبحه نطق الغزال ودله على مكان زوجته فأسرع الزوج وأحضر حبلا طويلا وعندما رأته أمه احتجت عليه قائلة الآن يا ولدي نحن في مصيبة واحدة وإذا حاولت سحب زوجتك من البئر فقد تسحبك هي وتصبح المصيبة مضاعفة وفهم ما قالته له أمه فقام بربط طرف الحبل يجذع شجرة قريبة وأسقط الطرف الآخر في البئر وطلب من زوجته أن تربط وسطها بهذا الحبل ثم قام بسحبها وأخرجها من البئر وبعد أن أخبرته زوجته بما حصل دون أن تتهم أحداً لكنه استنطق الغزال وعلم منه الحقيقة كاملة واكتشف لعبة أمه على زوجته.
