رجل أعمال فلسطيني أراد أن يفتتح مطعماً له في جسم طائرة فاستورد هذه الطائرة وقام بوضعها في قرية (الباذان) الفلسطينية لكن الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة في تلك الأيام كانت قد أوقفت مشروعه وبقيت طائرته هي الطائرة الوحيدة التي تجثم على أرض فلسطين وتنتظر ركابها لكنها لن تطير.
صاحبنا الذي أنوي أن أحدثكم عنه هو شاب صغير في السن من احدى قرى فلسطين كان قد ترك المدرسة في مطلع الستينات من القرن الماضي وسافر إلى الكويت ليبحث له عن عمل هناك وما أن وصلها حتى قبل بأول عمل عُرض عليه وهو مساعد ممرض في احدى المستشفيات وبعد فترة قصيرة من الزمن أتقن مهنته وأحبها وأخلص لها فعينوه ممرضاً مسؤولاً فزاده هذا الترفيع تواضعاً وأصبح صديقاً لكل من يدخل المستشفى مريضاً ويغادره سليماً.
كبر هذا الشاب وحان عنده وقت الزواج لكنه غريب الدار فلا أقارب ولا أصدقاء يستطيع أن يعتمد عليهم فقرر أن يستفيد من معارفه وبدأ في استعراض قائمة بأسماء الذين يدخلون عليه العيادة ليختار منها الشخص المناسب لهذه المهمة وبينما هو كذلك دخلت عليه احدى المراجعات فرأى فيها صورة أمه واختارها على الفور من دون أن يكمل استعراض بقية أسماء القائمة وعرض عليها مشكلته وطلب منها مساعدته في زواجه.
مصاب بالجدري
لم تخيّب هذه المرأة ظنه عندما قالت له:يوجد عند جيراننا بنتاً أرضاها لك يا ولدي فقال لها:وكيف لي أن أراها وتراني؟فقالت له:الجدري بدأ ينتشر في البلد وسأقنع سكان العمارة التي أسكنها بأهمية التطعيم وسأبلغهم بأن ممرضاً من وزارة الصحة سيحضر لتطعيمهم إلى البيت ليوفر عليهم عناء رحلتهم إلى المستوصف وسأضرب لهم موعداً مناسباً أفضله أن يكون يوم الجمعة القادم عندها تحضر أنت في هذا الموعد ومعك المطاعيم اللازمة وتبدأ في تطعيم الجميع وعندما يأتي دور البنت أعطيك بيدي إشارة ومعها كلمة من لساني إذا احتاج الأمر فإذا أعجبتك البنت ما عليك إلا أن تترك الباقي عليّ يا ولدي.
وبدأ صاحبنا في تطعيم أفراد العمارة
وجاء الموعد المحدد بينهما وجهز صاحبنا حقيبته الطبيّة وارتدى ثوبه الأبيض وذهب للعمارة التي تسكن فيها عروس المستقبل لكن بصفة رسمية وبدأ في تطعيم أفراد العمارة فرداً فرداً إلى أن جاء دور العروس المُقترحة فأشارت المرأة إليها بيدها ففهم إشارتها وأخذ يتمعن فيها جيداً دون غيرها من النساء ورأى منها ما لا يمكن أن يراه العريس من عروسته في الوضع الطبيعي فأعجبته هذه العروس وما كان منه إلا أن أعطى هذه المرأة إشارة البدأ في الدخول في التفاصيل معها ومع أهلها.
تنكة زيت زيتون من فلسطين لم يفتحها بعد
وبعد أن مهدت هذه المرأة له طريقاً معبداً عند العروس وأمها وما أن طلبها من أهلها حتى وجدهم قد وافقوا على زواجه منها وبعد أن تزوجها إحتار في ما سيقدمه لهذه المرأة التي ساعدته في بناء حياته الزوجية وبقي كذلك إلى أن جاءه الحل من والدته التي تعيش في فلسطين فقبل يومين ماضيين كانت أمه قد أرسلت له تنكة زيت زيتون من فلسطين لم يفتحها بعد ولم يذق طعمها فحملها كما وصلته وأعطاها لهذه المرأة هدية ومكافئة لها.
الرجل المسن:لا يمكن أن تكون الزوجة بديلاً عن الأم يا ولدي لأن حب الزوجة لزوجها شيء وحب الأم لولدها شيء آخر فحب الأم لولدها ثابت لا يتغير أبداً مع الأيام فهو يبدأ كبيراً وينتهي كبيراً أما حب الزوجة لزوجها فيبدأ صغيراً ثم يكبر مع القادم من الأيام إلى أن يصل إلى القمة في فترة الشباب ثم يبدأ في الهبوط إلى أن يتلاشى في فترة الشيخوخة وبعدها سيصبح زوجها عبئاً عليها تتمنى في قرارة نفسها الخلاص منه في أقرب وقت ممكن بعد أن تكون قد وجدت في حب أولادها وبناتها وأحفادها البديل.
عندما يلتقي الرجل والمرأة في بداية الزواج
صاحبنا:لكنك يا سيدي لم تقل لي كيف؟ومتى؟ولماذا؟يتلاشى مثل هذا الحب الكبير الذي تبديه الزوجة لزوجها بعد الزواج؟.
الرجل المسن:عندما يلتقي الرجل والمرأة يا ولدي في بداية زواجهما يكون لكل منهما ثقافته وبيئته وهوايته وقدوته الخاصة به لكن سرعان ما يتنازل كل منهما للآخر عن كل خصوصياته وقناعاته هذه مقابل اشباع الغريزة الجنسية وغريزة حب التملك وغريزة حب البقاء والتكاثر الموجودة في داخل كل منهما وبعد أن يُشبع كل منهما غرائزه من الآخر واحدة تلو الأخرى سيعود كل من الزوج والزوجة إلى ثقافته وبيئته وقدوته وهوايته وقناعاته الخاصة به التي كان يمتلكها قبل التعرف على الطرف الآخر لكنه كان قد خبأها في داخل نفسه عند الزواج.
للحديث جذور وفروع
صاحبنا:كلامك هذا يا سيدي كلام عام لم أفهم منه شيئاً على أرض الواقع أرجوك أن توضح لي أكثر.
الرجل المسن:لا تستعجل الأمور يا ولدي فللحديث جذور وفروع فأنت لا تستطيع أن تفهم الفروع إذا لم تتمكن من تفهم الجذور.
صاحبنا:أنا سألتك يا سيدي عن نفسك فقط ولم أسألك عن الناس الآخرين من أمثالك.
الرجل المسن:الحديث العام يا ولدي أفضل بكثير من الحديث الخاص فأنا إذا تكلمت لك عن نفسي فقط سيقول من يقرأ هذا الكلام أن هذه الحالة هي حالة خاصة بهذا الرجل وقد لا تنطبق هذه الحالة على جميع الرجال.
هذا ما تطلبه الزوجة
صاحبنا:أنا آسف يا سيدي إذا كنتُ قد تدخلتُ في توجيه دفة الحديث بيني وبينك وأعدك في المرات القادمة أن أستمع لك جيداً في كل ما تريد قوله بعد الآن أرجوك يا سيدي أن تكمل حديثك الممتع هذا وتقول لي كل ما تريد قوله.
الرجل المسن:الزوجة يا ولدي تُفهم زوجها منذ بداية زواجهما بِأَنهَا ستكون معه وله في السراء والضراء وما أن تأت الضراء سيبدأ حبها لزوجها بالذبول ويبدأ ما ادعت به حباً حميمياً يتناقص مع الزمن إلى أن يأت عليها وقت يتلاشى فيه هذا الجب.
زوجتي اليوم لم تعد كما كانت بالأمس
فزوجتي اليوم في عهد الشيخوخة لم تعد كما كانت في عهد الشباب فبالأمس كنا قد صنعنا بيننا ولنا لغة وثقافة خاصة بنا بعد أن استطعنا تكوينها معاً على مر الأيام والسنين أما في هذه الأيام وبعد دخولي سن الشيخوخة كنست كل ما كنا قد تعلمناه سوياَ وما كنا قد رسمناه سوياً وقامت على الفور باسترجاع ثقافة أهلها بعد أن أخفتها عني طيلة هذه السنين ولم تكتف بذلك بل انشغلت عني تماماً بنفسها وبأولادها وببناتها وبأحفادها بعد أن توسعت أسرتنا وتزوج الأبناء والبنات.
زوجات هذه الأيام
صاحبنا:هل ينطبق كلامك هذا يا سيدي على كل الزوجات في أيّ مكان وزمان من هذا العالم أم أنه ينطبق فقط على زوجات هذه الأيام؟.
الرجل المسن:لقد تبين لي من سؤالك الأخير هذا يا ولدي أنك تجهل أحداث كثبرة من الماضي كما أنك تجهل الكثير من أحداث الحاضر.
صاحبنا:أنا أقر وأعترف لك وأنا بكامل قواي العقلية بما قلته عني يا سيدي لكن ما دخل جهلي في أحداث الماضي وأحداث الحاضر فيما نتكلم عنه هذا اليوم من نكران جميل الزوجات لأزواجهن؟.
الرجل المسن:إعلم يا ولدي (إن كنت لا تعلم) أن الحاضر هو إبنٌ للماضي ومن لا يعرف ماضيه جيداً سوف لن يعرف حاضره ولا حتى مستقبله فعليك يا ولدي أن تعرف عن ماضي المرأة قبل حاضرها فالمرأة يا ولدي كانت في الزمن الماضي البعبد (ولا زالت في الحاضر) متهمة بأنها تُنكر كل عمل جميل كان قد قدمه لها زوجها.
صاحبنا:أنا يا سيدي لم أفهم ما تعنيه بقولك أن المرأة (تنكر جميل زوجها) فهل لك أن توضح لي أكثر عن هذا الموضوع الذي أجهله لو سمحت؟.
الرجل المسن:نكران الزوجة لجميل زوجها يا ولدي يعني هو ألا تعترف الزوجة لزوجها بلسانها صراحة بما يقرُّ به قلبُها من معروفِ وصنائع جميلةِ كان قد قدمها لها زوجها في الماضي.
ابو القاسم المعتمد على الله آخر ملوك الأندلس
صاحبنا:إذن ما عليك يا سيدي إلا أن تُحدثني أكثر عن المرأة قديمها قبل حديثها كي توسع لي مداركي وتزيد من معرفتي بخفايا المرأة في الماضي قيل الحاضر فأنا لا أعرف شيئاً عن زوجات ذلك العصر ولا عن الناس الذين كانوا يعيشون فيه.
الرجل المسن:أكيد أنك لا تعلم شيئاً عن تاريخ العرب في الأندلس وأكيد أنك لم تسمع يا ولدي باعتماد زوجة أبو القاسم المعتمد على الله بن عبَّاد ثالث وآخر ملوك بني عبَّاد في الأندلس.
القصر الذي كانت تغيش فيه إعتماد
صاحبنا:صدقني يا سيدي أنني أجهل تاريخ العرب في الأندلس ولم أسمع من قبل لا عن المعتمد على الله بن عبّاد ولا عن زوجته إعتماد شيئاً فأرجوك أن تحدثني عن ما كان قد جرى بينهما من فضلك.
الرجل المسن:إعتماد يا ولدي كانت زوجة للمعتمد على الله بن عباد وقد أحبها كثيراً حتى أنه غيّر إسمه الحقيقيي واشتق له إسماً جديداً من إسمها وفي ذات يوم أطلت من شرفة القصر التي تقيم فيه فرأت النساء القرويات يمشين في الطين والوحل فاشتهت أن تمشي مثلهن.
إعتماد وهي تتمرغ بالطين الخاص
وفي اليوم التالي حدثت إعتماد زوجها بأنها تريد أن تقلد القرويات في مشيتهن في الوحل فخاف الخليفة على قدميها أن يمسهما الطين الحقيقي فأمر أن يُحضّر لها طين خاص مُكوّن من المسك والعنبر وماء الورد وبعد أن جهزوه لها جاءت إعتماد وخاضت بقدميها في هذا الطين الذي بلغت تكاليفه آلاف الدنانير وحقق زوجها رغبتها ومشت في الطين وذات يوم سمعت من زوجها كلمة كانت قد أغضبتها فنظرت إليه وقالت:وَاللهِ ما رأيت منك خيراً قط في حياتي فقال لها المعتمد:ولا يوم الطين؟فأجابته على الفور:ولا يوم الطين!.
أنا لا ألوم زوجتك عندما تخلّت عنك لكنني ألوم أولادك
صاحبنا:أنا شخصياً لا ألوم زوجتك عندما تخلّت عنك في مرحلة الشيخوخة وتمسّكت بأولادها وبناتها وأحفادها فهي التي كانت قد حملتهم في بطنها تسعة أشهر ولم تحملك أنت ولا تنس كذلك أن زوجتك ليست هي من صلبك فلا ضير عليها إن فعلت ذلك لكنني قبل أن ألومها ألوم أولادك الذين هم من صلبك فكيف هنت عليهم عندما أصبحت ضعيفاً وهم الأقوياء؟وهذا ما يقلقني أكثر فأرجو منك أن توضح لي على الأقل إذا كنت لا ترغب بتوضيح ذلك للناس أجمعين كيف هنت على أولادك؟.
الرجل المسن:آخ … آخ يا ولدي لقد فتحت عليّ جرحاً عميقاً نازفاً لكنه كان مغطى كي لا يراه أحد بسؤالك هذا إذا كانت زوجتي التي كنت قد أعطيتها كل شئ عندي وأعطيتها فوق ذلك إسمي ومالي وبيتي وتخلت عني في الربع الأخير من حياتي فما بالك بأولادي الذين لهم زوجات وأولاد وبنات وحموات؟.
إذا رأيت رجلاً في هذه الأيام يستحي من الله ومن الناس وأميناً في أداء رسالته وعنده ذمة وضمير في أداء مهنته وصادقاً مع نفسه ومع الناس وعنده غيرة وكرامة على بلده ومقدساته وتراثه وأمته فاعلم أن هذا الرجل ليس من هذا الجيل، لأن هذا الجيل أُغرق حتى أذنيه بالصحافة الإقليمية أحياناً وبالصحافة القُطرية في غالب الأحيان، وبالصحافة العنصرية في معظم الأحيان، فجعلوا منه جيلاً سطحياً تجارياً تسويقياً لا تهمه قومية ولا دين.
وزير الزراعة الأردني السابق أحمد آل خطاب
ومن أهم الأمثلة على ذلك وزير الزراعة الأردني السابق أحمد آل خطاب الذي أثبت على الملأ أنه لا ينتمي لهذا الجيل بعد أن زار فلسطين وبكى، فعزّ على بعض الإعلاميين أن يروا بأم أعينهم من يذكرهم بفلسطين فشوهوا صورة هذا الرجل وقالوا عنه: أنه بكى على حال الزراعة في فلسطين، وتلقفها الصغار ممن لم يعرفوا فلسطين فقالوا: الأوْلى لهذا الوزير أن يبكي على حال الزراعة بالأردن قبل أن يبكي على حال الزراعة في فلسطين، ونسوا أو تناسوا أن هذا الوزير بكى في الأردن مراراً وتكراراً على الحالة التي وصل إليها العرب قبل أن يبكي في فلسطين.
الخضوري الذي تخرج منه الأقصى الأسير مُقيّداً بالأعلام الإسرائيلية
إلى كل هؤلاء المغرّر بهم أقول: لم يبكِ هذا الوزير المحترم على الزراعة في فلسطين فحسب كما كتبت لكم صحافة الإثارة، بل بكى عندما رأى المعهد (الخضوري) في طولكرم الذي كان قد تخرج منه وهو في عز الشباب عندما كان قد تذكر تلك الحقبة من خلال هذا المعهد الصامد فبكى وأبكى معه الحاضرين. وبكى أيضاً وأبكى معه شعب فلسطين عندما كحّل عينيه برؤية المسجد الأقصى الأسير في بيت المقدس وهو يراه مُقيّداً بالأعلام الإسرائيلية الصهيونية، وبكى هذا الوزير المحترم أيضاً عندما رأى الكرامة العربية والإسلامية المهدورة في مدينة الخليل خليل الرحمن وخاصة عند رفع الأذان من على مآذن الحرم الإبراهيمي، فعلى المؤذن قبل أن يرفع الأذان أن يصطحب معه جنديان من جنود العدو الصهيوني لمرافقته في رحلة الذهاب والإياب من وإلى مآذن الحرم الإبراهيمي.
موقعة الجمل في مصر
وعليّ أن أذكّر هؤلاء المُغرر بهم أيضاً أن بُكاء هذا الوزير في فلسطين لم يكن المرة الأولى ولن تكون المرة الأخيرة، فقبل ذلك بكثير بكى أثناء الحرب العراقية الايرانية عندما رأى الاقتتال بين الأخوة والجيران، وبكى هذا الوزير أيضاً عندما رأى الكويت وهي تُنهب وتدمّر، وبكى عندما استباحت أمريكا أرض العراق الشقيق، وبكى عتدما رأى موقعة الجمل في مصر، وعندما دُمرت ليبيا وبكى هذا الوزير عندما دُمرت آثار مدينة حلب في سوريا، فلماذا لم تكتبوا عنه عندما بكى على كل هؤلاء يا صحافة الإثارة؟
في بلادي الحبيبة فلسطين يقضي الشخص منا نصف عمره في بناء بيت له كي يستقر يه مع أسرته ويشعر فيه بالأمن والأمان وبعد أن يدفع كل ما فوقه وما تحته ويكتمل بناء هذا البيت يأتي العدو الصهيوني ومعه جرافاته وآلياته ويطلب من صاحب البيت إخلاء بيته في أقل من ربع ساعة كي يتم هدمه في الحال بحجة أن هذا البناء كان قد أقيم بدون ترخيص هذا الموقف كان قد حيرني في الماضي فكنت أتسائل بيني وبين نفسي ماذا يمكن لهذا الشخص المنكوب أن يحمل معه من بيته قبل أن يتم هدمه خلال زمن أقل من ربع ساعة؟.
إلى أن مررتُ بموقف مشابه إلى حد ما مع Google فلقد أمضيت سنوات وسنوات وأنا أكتب في وحدة المعرفة knol دون غيرها من المواقع إلى أن أصبح لي فيها أصدقاء من كافة دول العالم فجاء العزيز Google وقرر هدم ما بنيته في سنوات وتفرق الأصدقاء بعد أن جمعتنا رابطة الكتاب العرب على الإنترنت لكن للأمانة أقول أن Google كان أكرم بكثير من العدو الصهيوني فقد أعطاني مهلة لهدم موقعي أكثر بكثير من مهلة هدم البيت في فلسطين.
سيدة فاضلة تكبرني بعشرين سنة على الأقل كانت جارة لنا في فلسطين عندما كنت صغيراً في السن فكانت تلاعبني وتقبلني كأولادها تماماً وبقينا كذلك إلى أن جاءت حرب حزيران 1967 وغادرتُ البلاد صبياً ثم عدت إليها شيخاً وبعد عودتي تذكرت هذه السيدة وسألت عنها فأخبرني من سألت بأنها أصبحت أرملة منذ زمن بعيد وهي الآن تعيش في بيتها وحيدة بعد أن تزوج أولادها ورحلوا عنها فذهبت في الحال لزيارتها لأنها في مقام والدتي وما أن رأيتها حتى وددت تقبيلها لأنها تذكرني بأمي لكنني قررت أن أكتفي بمصافحتها باليد وعندما مددت يدي نحوها تراجعتْ إلى الوراء بسرعة إلى أن وجدت نفسها محصورة بيني وبين الحائط عندها صاحت بأعلى صوتها قائلة:أبعد يدك عني واكتف بالسلام من بعيد.
الداعية أم فلان
حيرتني هذه السيدة وتسائلت في نفسي ماذا حدث لها بعد أن ترملت؟أمسّها شيطان في آخر عمرها؟لكنني كظمت غيظي وهدأت من روعي ثم سألتها ماذا جدّ عليك يا خالة بعد وفاة زوجك؟فقالت:كنت أعيش مع زوجي في عصر الجاهلية الأولى أُصافح كل من يمد لي يده للمصافحة وكنت أصافح الجميع وبقيت كذلك حتى تعرفت على الداعية أم فلان (جزاها الله خيراً) وأفهمتني أن لا أصافح رجلاً قط لأن يد الرجل ستكون جمرة أتلقفها بين يديّ يوم القيامة وأنا الآن أعلن أمامك ندمي وأسفي الشديد على كل مصافحة كنت قد صافحتها في الماضي.
سيشتكي علينا كل عضو عاري من الذهب يوم القيامة
وبعد سنة عدت مرة أخرى إلى أرض الوطن فذهبت لزيارتها لكن هذه المرة أعلنت لها قبل وصولها أنني لا أريد مصافحتها فارتاحت وانفرجت أساريرها وعندما دققت النظر أكثر في ما تلبس وجدتها قد ارتدت (الحلق) في أذنيها والأساور في يديها والمعلقات في رقبتها والخواتم في أصابعها فسألتها عن السبب الذي جعلها ترتدي كل هذا الذهب مرة واحدة؟فأجابت:لقد أفهمتنا الداعية أم فلان (كثر الله من أمثالها) أن لكل عضو في أجسامنا حق علينا وسيشتكي كل عضو (عاري) أمره لله تعالى يوم القيامة إذا لم نزينه بالذهب فأصابعي ورقبتي وأذناي وذراعاي كلها ستحاسبني يوم القيامة أمام الله تعالى إذا لم تلبس الذهب فلبست كل ما عندي من ذهب كي أقطع خط الرجعة على كل أعضائي التي قد تحاسبني يوم القيامة.
وكأننا قبل ظهور هؤلاء الدعاة كنا من أصحاب الفيل
كانت جارتنا (سامحها الله) سيدة فاضلة بسيطة ساذجة على باب الله تحب كل الناس وكل الناس تحبها وبقيت على هذه الحال إلى أن جاء دعاتنا الجدد (الأفاضل) فلوّثوا لها عقلها وسمموا لها تفكيرها وقضوْا على البساطة والبراءة في طبعها وكان كل ذلك التغيير تحت ذريعة وستار التديّن وليس الدين الذي هو براء مما يقوله هؤلاء الدعاة للناس وكأننا قبل ظهورهم كنا من أصحاب الفيل.
على مدى سنتين متتاليتين تمكن الصديق العزيز (فارس دبابنة) من أن يعيد لي ذكريات هامة في مرحلة الطفولة المبكرة كادت الغربة أن تمحوها من الذاكرة. ومن أهم هذه الذكريات ما كان يسمى بـ (خميس البيض) في فلسطين وهو أول يوم خميس من شهر نيسان من كل سنة، وفي هذا اليوم كان الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران يتفننون بسلق العشرات من بيض الدجاج وبيض الشنانير وبيض الحبش ويقومون بصبغها بقشر البصل أو بورق اللوز أو بزهرة حنون البس أو بأي ورق أخضر ثم يقومون بوضعها في (قبعة) مصنوعة من القش وتوضع في مدخل البيت في هذا اليوم.
ويذهبون بهذا البيض المسلوق إلى المقبرة
ثم يذهبون بهذا البيض المسلوق إلى المقبرة لتوزيعها على الأطفال عن أرواح موتاهم، فكانوا يعطون كل طفل يمر عليهم في المقبرة (بيضة) يختار لونها وحجمها بنفسه، وكنا كأطفال ننتظر ذلك اليوم على أحر من الجمر، لا لنأكل البيض ونشبع منه فقط (لم يكن البيض متوفراً كما هو الآن) بل لنقوم بجمعه والتباهي به أمام الأطفال الآخرين أمثالنا من جهة، ومن جهة أخرى كي نلعب به أيضاً.
مدحاة شنار فلسطيني
وكنا في ذلك اليوم نلعب بما كنا قد جمعناه من بيض مع بعضنا البعض بأن يمسك أحدنا بيضة بشكل رأسي ويلف كفه وأصابعه حولها ويُظهر منها الجزء الذي يعتقد أنه أقوى منطقة في البيضة، ثم يأتي الآخر ببيضة مثلها ويضرب بها هذه البيضة ومن تنكسر بيضته يخسرها، أما الأطفال (الدهاة) فكانوا يضعون في يدهم (حجراً) ويضعون فوقه قشرة من البيض مصبوغة، ليوهموا غيرهم أن ما بيدهم هي بيضة وبعد أن يكسبوا كمية لا بأس بها من البيض يكتشفهم باقي الأطفال فيقاطعونهم ولا يلعبون معهم في السنة القادمة.
من يأكل بيضته يخسر دجاجته
ثم كبرنا وكبر الدهاة معنا أيضاً، لكنهم استبدلوا لعبة سرقة البيض من الأطفال الصغار في أول يوم خميس من شهر نيسان من كل سنة إلى سرقة طيور الدجاج من الكبار في باقي أيام السنة، لكننا للأسف بعد أن اكتشفناهم لم نقاطعهم كما كنا نقاطعهم صغاراً، لهذا فقد ازدادوا خبرة أكثر منا بكثير فأعطوا كل واحد منا بيضة من دجاجته كي يلعب بها وقالوا لنا: من يأكل بيضته منكم يخسر دجاجته، وأكل كل واحد منا بيضته وخسرنا كل ما نملكه من دجاج حتى أنهم لم يتركوا لنا شيئاً نأكله، وعندما طالبناهم ببيضة أخرى قالوا لنا:أخبروا عنا هيئة مكافحة الفساد.