
في منتصف القرن الماضي كانت حياة الناس في معظم القرى الفلسطينية بسيطة جداً ومتطلباتهم كانت أبسط وخاصة في قريتنا ومرد ذلك يعود إلى سيطرة تركيا على هذه القرى لفترة طويلة من الزمن دون أن تطورها أو تغير من حياة سكانها قيد أنملة بل على العكس تماماً كانت تفرض على أهلها الضرائب الكبيرة التي كانت تقصم ظهورهم دون أن تقدم لهم أي خدمات تذكر في البنية التحتية لهذه القرى وخاصة في التعليم والصحة.

وما أن خرج الناس في هذه القرى من سيطرة الخلافة التركية حتى جاءت بريطانيا العظمى وجعلت من نفسها وصية عليها فوضعت يدها على كل هذه القرى وبدل أن تطورها إلى الأحسن في كل المجالات وتأخذ بيدها إلى الأمام أهدتها حركة صهيونية عنصرية حاقدة أهلكت الحرث والنسل وعلى الفور قامت هذه الحركة الفاشية بمصادرة الأرض من أصحابها وأقامت عليها مستوطناتها وطردت سكانها الأصليين واستبدلتهم من حثالات الأمم الأخرى.

أمام هذا الواقع المرير كان لا بد أن يسود التكافل والتلاحم بين سكان هذه القرى مع بعضهم البعض شاؤوا أو أبوا فظهرت في حياتهم (المضافة) لتكون رد فعل طبيعي على كل هذه الأحداث مجتمعة والمضافة عادة ما تكون في مكان محايد يخصصه أهل القرية لاستقبال ضيوفهم وأهم هؤلاء الضيوف في ذلك الوقت هم ممثلوا هذه الحكومات المتعاقبة على فلسطين وفي غياب هؤلاء الضيوف يلتقي الناس فيها مع بعضهم البعض بعد أن ينتهوا من أعمالهم الزراعية ويستقبلون فيها كذلك كل مار أو زائر لقريتهم وخاصة من القرى المجاورة وكان الجميع يساهم في التكاليف المترتبة على ذلك.

أما قريتنا في أربعينات القرن الماضي فلم يكن فيها ساعة لمعرفة الوقت بل كانوا يعتمدون في حياتهم على قياس ظل حائط أو ظل شجرة أو ظل أي معلم آخر كي يتعرفوا على أوقات الصلوات ومن ثم أوقات العمل وكان في قريتنا مقام قديم لأحد الأولياء الصالحين قيل لنا أنه جامع وكان هذا الجامع مُهمل لا أثاث فيه سوى (نعش) خشبي لحمل الأموات إلى المقبرة و(مغتسل) خشبي لغسل الأموات فوقه قبل دفنهم ولا يوجد لهذا المسجد إمام ولا حتى خادم له ولا يُصلى به.

في الأيام العادية ليست هناك من مشكلة ولكن المشكلة كانت تظهر لهم في شهر رمضان المبارك من كل عام فلا بد لهم من سماع الآذان كي يفطروا أو يمسكوا فكانوا يستمعون إلى آذان القرى المجاورة خاصة قرية (مزارع النوباني) أو (بلدة سلفيت) وعليه يفطرون أو يمسكون هذا لو جاء شهر رمضان في فصل الصيف أما إذا جاء شهر رمضان في فصل الشتاء فلن يُسمع الآذان من هاتين البلدتين نظراً لوجود المطر والرعد والبرق وصوت جريان الشعاب والوديان فكانوا يحتارون في موعد الفطور أو الإمساك إلى أن يُقرروه بالإجماع وبشكل تقريبي.

وفي أحد أيام الشتاء الباردة إنتشر الغيم الأسود في كل مكان من السماء واختفت بذلك الشمس من السماء تماماً وبدأ هطول الأمطار بغزارة شديدة وفاضت الشعاب والوديان واستمر هذا الحال عدة ساعات متصلة جعلت الناس يظنون أن آذان المغرب قد حان وقته فأحضر كل واحد منهم فطوره إلى المضافة وأفطروا هناك وشربوا الشاي والقهوة وبعدها بدأت عندهم السهرة وخلال سهرتهم تلك وإذا بالشمس لا تزال ساطعة في منتصف السماء وإذا به لم يحن موعد الإفطار بعد.
