
تذكرت صديقاً قديماً لي يقيم في إحدى القرى المجاورة لقريتنا فشددت الرحال في الحال إلى هذه القرية، وبعد أن وصلت سألت عنه فوجدت من يدلني إلى بيته، وما أن رآني حتى تعرف عليّ بصعوبة بعد هذا الغياب الطويل لكنه بعد أن شحذ ذاكرته جيداً زاد من ترحيبه لي. وقبل أن يُدخلني منزله تذكر بقية الزملاء وأخذ يسأل عنهم واحداً بعد الآخر، بينما نحن في طريقنا إلى مجلسه، وهناك عرّفني على والده العجوز وأخوين له. كان الأخ الأكبر يرتدي ثوباً عربياً وتملأُ وجهه لحية لم يهذّبها في حياته قط، ويحمل مسبحة ينقلها بين الحين والآخر من يده اليمنى إلى يده اليسرى، وعندما يتكلم يضع مسبحته في كفه اليسرى ويضغط عليها بكفه وأصابعه ويحرك يده اليمنى في أي اتجاه حسب حالته النفسية التي يضع نفسه فيها أثناء الحوار.

أما الأخ الأصغر فكان من شباب هذه الأيام: حليق الرأس يرتدي بنطالاً من الجينز، ويلوح بين فترة وأخرى بمفاتيح سيارته وكأنه يود الانصراف، لكنه جلس معنا على استحياء. وبعد أن تعارفنا جلسنا نحن الخمسة نشرب القهوة فسألت صديقي عن حاله بعد هذا الغياب الطويل فقال: لا زلنا بانتظار شخص آخر يخرج من رحم هذا الشعب ليكمل المسيرة التي بدأها أبو عمار ويرفع عنا نير الاحتلال.

فرد عليه أخوه الحليق قائلاً: غلاّبة يا فتح يا ثورتنا غلابة، غلابة اليد التي تفجر دبابة. فقاطعه صديقي قبل أن يكمل كلامه مصححاً: بل قل غلابة اليد التي ترسل إلى فلسطين ولو حمامة، فالحمامة داخل فلسطين تبني عشها في أعالي الأشجار وتنزل على الأرض تبحث عن أكلها فإن لم تجده تطير وتبحث عنه لكنها ستعود يوماً ما ولو بعد حين.

فهذا صديقي الذي يجلس معكم، وأشار بيده نحوي، أكبر مثال يؤكد على صحة ما أقول. فقد عاد إلى الوطن بعد غياب طويل ثم أكمل وقال: أما إذا بَنَت هذه الحمامة عشّها خارج فلسطين، فستُضلّ فراخها طريق العودة، وعندها سيتلقفهم السماسرة والباعة المتجولون ويبيعونهم بثمن بخس وهم لا يشعرون، فردّ عليه أخوه الملتحي محتجاً: حلّلوا وفسِّروا واستنتجوا ونظّروا كما تشاؤون، فأنا لا أقبل إلا بفلسطين التاريخية من البحر إلى النهر وفوقها وردة، واحتدّ في كلامه وبحركة لا إرادية ضغط على مسبحته فقطع خيطها وتناثرت حباتها في كل مكان، وعلى الفور سأل صديقي أخاه الملتحي قائلاً: هل تستطيع يا أخي العزيز أن تعيد مسبحتك كاملة كما كانت؟

لم يترك لهم والدهم استكمال حوار الأخوة هذا، بل قطعه عليهم قائلاً: نعم يا ولدي أستطيع أن أعيد المسبحة أحسن مما كانت لكن بشروط، أولها أن أستبدل خيطها الصيني المستورد بخيط من نبات القنب بعد دعكه مرات ومرات بعشبة الغبيرّة الموجودة بكثرة في حواكيرنا، فأهل الصين يبيعوننا مسابح مربوطة بخيط صناعي وهمي وما هو بخيط ولكن شبّه لنا.
