
في نهاية خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي، كانت والدتي تُربّي قطيعاً من الدجاج البيّاض البلدي، مثلها مثل غيرها من بنات جيلها، وقامت بإعداد “خُم” لهذا القطيع في فناء الدار، فأضافت بذلك مسؤولية إضافية فوق مسؤولياتها الكثيرة، إذ كانت في كل صباح تفتح لهن باب الخم ليخرجن ويلتقطن أرزاقهن، وقبل مغيب الشمس بقليل تبدأ أمي في المناداة عليهن بقولها: “بيت بيت” وكن يفهمن عليها ما تقوله لهن فيجتمعن أمام باب الخم، وبحركة بسيطة من يدها تُدخلهن في الخم وتغلق عليهن الباب خوفاً من هجوم الواوي عليهن ليلاً.

وفي أحد الأيام صحوت من نومي على أمي وهي تولول وتدعو على ذلك الواوي اللعين، الذي تمكن من التسلل ليلاً وقام بخطف أحسن دجاجة عندها، لكنها من هول الصدمة لم تفكر ولم تسأل نفسها عن الطريقة التي استطاع بها هذا الواوي أن يفتح باب الخم، ويخطف منه دجاجة واحدة فقط دون أن تسمع صياحها أو أن ترى أثراً من آثار العدوان على قطيعها في تلك الليلة. ومرت الأيام ونسيت أمي الموضوع بكامله.

مرّت السنون حتى ثمانينات القرن الماضي، عندما قررت والدتي أن تذهب لأداء فريضة الحج. وجاء الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران لوداعها، ومن جملة من حضر قريب لها من الدرجة الثانية تحبه وتحترمه، وقبل أن يودّعها طلب منها أن تسامحه فاندهشت أمي وقالت له: لا أظنك كنت قد عملت معي شيئاً يستحق المسامحة، بل على العكس تماماً أنا التي أريد منك أن تسامحني على ما كنتَ قد قدّمتَه، وما زلتَ، لي من مساعدة. لهذا فأنا مسامحة لك فيما كنت قد فعلته معي حتى دون أن أعلم عنه شيئاً. لكن بالله عليك يا … (ونادته بدرجة قرابته لها) أن تقول لي ماذا فعلت معي ويستحق المسامحة؟

فقال لها: أتذكري يا… (وناداها بدرجة قرابتها له) قطيع الدجاج الذي كان عندك في خمسينات القرن الماضي؟ فقالت له: أذكره جيداً ولا أنساه، فقال: أتذكرين اليوم الذي قام به الواوي بخطف دجاجة من دجاجاتك من الخم ليلاً؟ فقالت: بلى، ويومها دعوت عليه “سلّ” دواعي فقال لها: كان لي صديقٌ لصٌ أيام الشباب، ووعدني بعشاء فاخر إذا أحضرت له دجاجة من دجاجاتك، وطغاني هذا الشيطان وعلمني كيف أقوم بسرقة هذه الدجاجة بهدوء ودون أن ينكشف أمري للناس، فقالت له: وكيف تم ذلك؟.

فتابع قائلاً:طلب مني صديقي اللص هذا أن أفتح باب “الخم” ليلاً وأقوم بتلقيم تلك الدجاجات “عراماً” أو حفنة من القمح الذي كان قد أحضره معه لي كي أستطيع أن أمسك بواحدة من هذه الدجاجات، بعد أن أُشغلهن بأكل القمح. وعلى الفور قمت بخطف أكبر هذه الدجاجات حجماً وأجملهن مظهراً بسرعة كبيرة، بعد أن وضعت يدي حول رأسها ضاغطاً على منقارها خوفاً من صياحها، وحملتها بين يديّ إلى الخلاء ليلاً وكان صديقي بانتظاري هناك.

وما أن وصلته وجدت أنه أشعل النار، وفي الحال قام بذبحها وبنتف ريشها وتقطيعها، ثم قام بشيّها على طريقة الزرب. وبعد ساعة من الزمن تعشّينا عليها وذهب كل واحد في طريقه، والآن أريد منك أن تسامحيني عن ما كانت قد فعلته يداي، فردت عليه أمي قائلة: أنا عن نفسي مسامحك، لكن هل سيسامحني الواوي بعد أن اتهمته بما لم يقم بفعله؟ لقد صدق من قال أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته حتى ولو كان واوياً.

ذكرتني هذه الحادثة البسيطة التي كانت قد حدثت في الماضي البعيد مع أمي بـ (جريمة العصر) في هذه الأيام، عندما قام مجهولون بالدخول إلى بيت أخي المرحوم المهندس فؤاد عبود (أبو أحمد) في وضح النهار عصراً بعد أن تأكد من خلوّه من قاطنيه في مدينة سلفيت بتاريخ 31/12/2014 أي قبل مرور سنة على وفاة هذا الرجل، الذي شهد ويشهد له الجميع بأمانته وتفانيه في خدمة بلده وأهلها. وابتدأ بعدها تحقيق ما زلنا حتى الآن بانتظار نتائجه، فلا وجود لواوي تُعلّق عليه شماعة الاتهام، ولن تحترق الدار وحدها.
