
رافقني شيخ كبير في السن أثناء سفري من مدينة عمان إلى فلسطين عن طريق جسر الملك حسين وبعد أن إنطلقت السيارة بنا من محطة سفريات الشمال في طبربور أخذ هذا الشيخ يتمتم بكلمات غير مفهومة إلا لمن حوله! عندها إقتربت من هذا الشيخ أكثر كي أسمع منه ما يقول من باب حب الإستطلاع ليس إلا!وبعد جهد جهيد فهمت أنه يردد كلمات وجمل يحفظها كي تُبعد عنه شر الحاسد إذا حسد!.

لم أحتمل صبراً على هذا الشيخ فقلت له:هل لك حُسّاد يا شيخنا وأنت ذاهب إلى سجن الإحتلال بقدميك؟قال:نعم حسادي كثيرون وإليك واحداً منهم!بالأمس ودّعني قريب لي (أنا أعلم علم اليقين أنه لا يحبني)وتنهّد من الأعماق دون أن ينطق بكلمة واحدة فتذكرت تنهيدته الآن وبدأت أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بيني وبين نفسي كي أمنع عني كل عين وحسد قد يصيبني من هذا الرجل وأمثاله قبل هذه الرحلة!.

قلت لهذا الشيخ:قريبك هذا يا شيخنا كان قد تنهد من الأعماق عندما مرت صورة الوطن الجميل في خياله فتذكر موسم الربيع في بلاده وتذكر أنه ممنوع من دخول وطنه فلم ينطق معك عندما ودعك لا أكثر ولا أقل!فقال هذا الشيخ:ما قام به قريبي نوع من أنواع الحسد التي لا تعرفها أنت يا بني!فهذا الشخص عنده شيء من الإعتراض على ما قدره الله لعباده!فلا هو قانع بما قسم الله له ولا هو راض بما قسم الله لغيره!.

نظرت إلى يميني في الطريق فوجدت حصاناً يعتلي ظهره راكباً يسابق سيارتنا فقلت لهذا الشيخ:الأوْلى لقريبك هذا أن يحسد هذا الحصان قبل أن يحسدك أنت يا شيخنا فقال الشيخ:وعلى ماذا سيحسد قريبي هذا الحصان؟فقلت له:عليك يا شيخنا أن تحسد هذا الحصان لا لجماله فقط ولا لقوته فقط وإنما عليك أن تحسده لأنه يحمل فوق ظهره سرج واحد!ويركبه شخص واحد!وفي داخل فمه لجام واحد!وإذا قفز هذا الحصان عن حاجز يصفق له كل من يشاهده!وإذا تعثر في حاجز آخر يحزن عليه الجميع!أما نحن يا شيخنا فعلى ظهورنا أسرجة متعددة!يتناوب عليها ركاب مهرة!يستخدمون معنا ألجمة متنوعة!ويضعون أمامنا حواجز مرتفعة!ولا أحد في هذا العالم يسأل عنا إذا قفزنا عنها أو تعثرنا بها!.

فالمسافة بين بلد إقامتي وبين بيتي في فلسطين يا شيخنا هي بضع عشرات من الكيلومترات!لكنني قبل أن أصل بيتي عليّ أن أجتاز ثلاثة حدود دولية!وثلاثة أخرى غيرها ليس كمثلها حدود في هذا العالم!فقال الشيخ:أنا يا ولدي لا أفهم ما تقول به أرجوك أن توضح لي أكثر كي أفهم أكثر فقلت للشيخ:أنا يا شيخنا أتنقل خلال هذه الرحلة الميمونة بين أربع سيارات مختلفة!لكل واحدة منها همومها ومشاكلها وسعرها وعملتها!وبيدي ملف كامل منتفخ بأوراقي الرسمية والثبوتية لي ولزوجتي وأولادي!وهذه الأوراق متعددة الأصول والمنابت!.

وفوق ذلك كله عليّ أن أحمل معي جوازات السفر الأردنية مع الكروت الصفراء المرافقة لها ومعها تصاريح الإحتلال وهويات السلطة الفلسطينية لكل فرد من أفراد أسرتي وكمية لا بأس بها من الصور الشخصية لكل فرد من أفراد العائلة وشهادات الميلاد الأصلية للأطفال الذين كانوا قد ولدوا في الخارج وبعد أن أقوم بتحضيرها وتجميعها أركب سيارة كي توصلني إلى نقطة الحدود الأردنية ومن هناك أركب حافلة كي توصلني إلى نقطة العبور اليهودية ثم بعد أن يدققوا ما أحمله من ورق ويسمحون لي بالدخول أركب حافلة أخرى توصلني إلى مدينة أريحا ثم أركب سيارة أخرى من مدينة أريحا إلى بلدي وقبل أن أصل علي أن أخرج من منطقة A لأدخل منطقة C ومنها إلى منطقة B وأخيراً أدخل منطقة A كي أتمكن من الوصول إلى بيتي العتيد!فلن أدخله إلا بعد أن أرى الويل في هذه المحطات!زد على ذلك ما يتخلل هذه الرحلة من المُنغصات والهمّ والغمّ ما يكفيها لدخول موسوعة جنس تحت عنوان أقصر رحلة بأكثر متاعب!.
