المكان : عمان ـ الأردن
الزمان : 16/8/1991

بعد أن أنهى الكويتيون خدماتنا في وزارة التربية أفقدونا الأمن والأمان والاستقرار الأسري في الكويت ولم يكتفوا بذلك بل حرموا أولادنا من الدراسة في مدارسهم رغم تشوقهم لها وقريباً ستفتح المدارس أبوابها وسيمنع أولادنا من دخولها وأمام هذه المُعطيات لم يعد لإقامتنا في الكويت أيّ معنى لأن الأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن لكنهم لم يدفعوا لنا مستحقاتنا المالية فهي بحاجة إلى مزيد من الوقت هم يُحددونه ولسنا نحن فاتفقنا أنا وزوجتي أن تسافر ومعها الأولاد من الكويت في 6/8/1991 إلى سلفيت في فلسطين كي يُجهز الأولاد أنفسهم للمدرسة ويستوعبوا الحياة القادمة وسألحق بهم عندما أنهي كل أموري المالية في الكويت.

في 15/8/1991 تمكنت من تسديد كافة التزاماتي واسترداد ما استطعت من حقوقي المالية وأنهيت كل شئ وغادرت الكويت مُتوجهاً إلى عمّان لكن أموراً جديدة كانت قد طرأت وجعلت من وجودي مع زوجتي في عمان ضرورة مما جعلها تغير جزء من الخطة وتنتظرني دون أن تكمل رحلتها إلى سلفيت والتمّ شمل الأسرة ثانية ولكن في عمان هذه المرة.

أبو إيهاب صديق قديم في عمان وفوق ذلك أهل زوجته جيران لنا في سلفيت فلا بد لنا من رؤيته لنعلمه القديم من أخبارنا ويتعرّف منا على جديدها وفي نفس الوقت نتعرف على أخبارهم فنحن لم نرهم من سنوات وفي اليوم التالي ذهبنا لزيارتهم في أبو نصير وبعد أخذ ورد سألني عن الخطوة القادمة؟فشرحت له خطتي للمستقبل القريب فتمنى عليّ تغييرها بأن أستبدلها بخطة بديلة من عنده لم تكن في الحسبان وكانت هذه الخطة التي وضعها صديقي قد أسست لما نحن به الآن فهو يرى أن تذهب زوجتي وأولادي وحدهم إلى سلفيت ويلتحق الأولاد في مدارسهم ويمارسوا حياتهم العادية وكأنهم باقون فيها إلى الأبد وأبقى أنا هنا في عمان كي أبحث عن عمل وعن سكن وتعهد أبو ايهاب أن يبذل قصارى جهده في سبيل حصولي على هذين المطلبين ووعد كذلك أن يعرفني على صديق له يعمل في حقل التعليم كي يساعدني هو الآخر وفي حال توفر العمل والسكن معاً ــ من سابع المستحيلات ــ أقوم باستدعاء زوجتي وأولادي ليعودوا إلى عمان ثانية وفي حال فشلي في تحقيق هذين المطلبين عندئذ أغادر إلى سلفيت بأقل الخسائر فأعجبنا هذا الحل لو يتحقق.

وفي اليوم التالي عرّفني أبو إيهاب على صديقه الذي يعمل في حقل التعليم وإذا به ممن كانوا يعملون في الكويت لكن هذا المعلم كان قد سبقني في الوصول إلى عمان وتمكن من الحصول على عمل في مدارس المنهل العالمية وبعد أن تعارفنا وإذا به صديقاً لعدد كبير من أصدقائي في الكويت وعندما علم أبو ايهاب بذلك قال:أنا الآن انتهت مُهمتي طالما أنتم أصدقاء وتعملون في سلك التعليم فكل واحد منكم يعلم جيداً ما يُريده الآخر وودّعنا الرجل وعاد إلى بيته بعد أن شكرته جزيل الشكر.

بعد أن تركنا أبو ايهاب قمنا باستعراض سريع لما كان قد حدث مع كل واحد منا بعد حرب الخليج وما حدث كذلك مع الأصدقاء الآخرين وبعدها قال صديق صديقي:أنت تعلم أن العام الدراسي الآن أصبح على الأبواب وكل مدرسة أخذت كفايتها من المدرسين أما أنت يا صديق صديقي فقد حضرت متأخراً لكنني أعرف صديقاً لي كان قد تعاقد مع مدرسة البتراء النموذجية في خلدا واختلف معهم وتركهم وهم الآن أكيد بحاجة إلى معلم بديل وللعلم فإن جميع من يعمل في هذه المدرسة هم ممن كانوا يعملون في الكويت اذهب إلى هذه المدرسة وقدم طلباً عندهم وعلى الله الاتكال.

في اليوم التالي سألت عن مكان المدرسة فأنا لا أعرف شيئاً في عمان وعندما وصلتها وجدتها مدرسة متواضعة لا تحقق طموحي فقلت في نفسي:آه يا زمن فبعد أن كنت أدرّس في ثانوية عبدالله السالم في دولة الكويت التي كان يعرفها القاصي والداني أنتقل مرة واحدة للتدريس في هذه المدرسة الصغيرة التي لا يعرفها أحد!وبدأت أخاطب نفسي وكأنني قد أخذت الموافقة على التعيين قبل أن أدخلها فقد تملكني إحساس بأن هذه الوظيفة الشاغرة الوحيدة في عمان هي التي تنتظرني ولست أنا الذي أتشوق لها.

وعندما دخلت هذه المدرسة لأول مرة ورأيت من كان يعمل بها وبعد أن تحدثت معهم وجدّتهم وكأنهم يركبون باصاً مٌعداً للسفر والباص ينتظرني ولن يقلع هذا الباص بدوني وما هي إلا لحظات حتى قام أحد أصدقائي العاملين وعرّفهم على شخصي حتى تعاقدوا معي فوراً بدون تقديم طلب أو مقابلة أو امتحان أو حصة تجريبية كما كان يفعل غيرهم من المدارس الخاصة عندها لم أسأل عن أي شئ حتى الراتب لم أسأل عنه بعد أن قلت في نفسي:إن ما أعجب صديقي سيعجبني حتماً وبهذا تكون قد حُلت مشكلة العمل وبقيت المشكلة الأهم وهي مشكلة السكن.

أما قصة هذه المدرسة التي كانت تنتظرني فهي قصة عجيبة غريبة فقد أسسها رجل تربوي يشاركه مهندس لا يعرف في التعليم شيئاً لكنه اغتنم فرصة حرب الخليج وكأنه كان ينتظرها وانشق على شريكه وأقنع الأستاذ زهير الكرمي وهو رجل تربوي إداري مشهور ومشهود له في الكويت والأردن وفلسطين وجعله رئيساً لهيئة المديرين فيها واتفق مع أساتذة من الجامعة الأردنية ليكونوا من المؤسسين لها وأعلن في الصحف المحلية هذا الإعلان الصغير الذي يقول فيه:إلى رجال التربية والتعليم القادمين من الكويت ساهم معنا واضمن عملك واربح 25% من رأس مالك ومدارسنا بإدارة الأستاذ زهير الكرمي.

كان هذا كل ما يطلبه المعلمون القادمون من الكويت فهم يملكون المال الوفير لكنهم لا يستطيعون استغلاله أو استثماره فهم أي المعلمون يجهلون سوق عمان الجديد عليهم في كل شئ زد على ذلك أن هذه الفرصة تعتبر فرصة ذهبية للإستثمار فنسبة الربح المعروضة عليهم لم يحلموا بها في زمن الرفاهية فما بالك الآن وفي مثل هذه الظروف أما ضمان العمل فحدث ولا حرج فقد اكتشفت في اليوم التالي بأنني كنت محظوظاً بعد أن سمعت من أصدقائي التفنن في اذلال من يريد أن يعمل بوظيفة معلم في مدرسة خاصة.
فقد كانت المدارس الخاصة تعاني من نقص شديد من المدرسين فجأة وبدون مقدمات أصبح يدق بابهم مئات المدرسين بخبرات عالية الجودة فأصبحوا يتفننون في طرق إذلالهم وأصبحت المدرسة الخاصة كدائرة حكومية يجب على المعلم أن يتقدم بطلب للتوظيف فيها ليدرسوه على راحتهم ويجب عليه أن يراجعهم مرات ومرات كي يحصل على الإجابة رغم أنها كانت معروفة سلفاً وهي الرفض الوقح غالباً.

لم يكتف أصحاب المدارس الخاصة أو من ينوب عنهم من الاداريين بتقديم المعلمين الراغبين في العمل طلبات عمل لهم فحسب بل اشترطوا عليهم أيضاً أن يدخلوا امتحاناً تحريرياً يعقدوه لكل المتقدمين للوظيفة كل في مدرسته ليختاروا منهم الأحسن بمقياسهم ومقياس امتحاناتهم العجيبة وأسئلتهم السخيفة التي كانت تبدأ بالسؤال الأول:لماذا اخترت مدرستنا للعمل دون المدارس الأخرى؟.

ولم يكتف أصحاب هذه المدارس أو من ينوب عنهم من الاداريين بالإمتحان التحريري الذي كانوا يعقدوه للمتقدمين للعمل لديهم بل اشترطوا على كل من ينجح في امتحانهم هذا أن ينجح في المقابلة الشخصية مع صاحب المدرسة ومديرها وبعد أن تتم هذه المقابلة يكتشف من يقابل هذا المعلم أنه أقدم منه لا بل أكفأ وعليه فالمقابلة الشخصية لم تعد تكفي للتعيين بل لا بد له بعد كل ما سبق أن يعطي حصة تجريبية أمامهم.

كانوا يجمعون طلاب المدرسة ليتفرجوا على من لا سيدرسهم بعد أن يقنعوهم بأنهم يبحثون لهم عن الأفضل وعليهم أن يساهموا في اتخاذ القرارات ويلاحظ الطلاب المدرس وهو يرقص بينهم كالحبشي الذبيح ويتساءل الطلاب:لماذا ترقص أمامنا يا أستاذ؟فيجيبهم:إن رقصي لن يطربكم لكنني أرقص ليطرب مدراءكم وليتأكدوا بأنفسهم أنني أجيد الرقص على الحبال بعد ذلك يأتي دور الراتب فكانوا يدخلون المعلم في مساومة وقحة مستغلين هذا العرض الذي أصبح أكثر من الطلب فكنت تجد مدرساً مُرتبه مائة دينار وآخر في نفس المدرسة مُرتبه ألف دينار.

المدرسة عادة تقاس بمديرها ومدرسيها ومن الذي لا يتشرف بالعمل مع الأستاذ زهير الكرمي فالعمل معه شرف كبير والأهم من ذلك كله أنه لن ولم يدخل مشروعاً خاسراً في حياته بل على العكس تماماً فهو يُنجح المشروع التربوي المتعثر وما أن وصل الخبر إلى المعلميمن القادمين من الكويت حتى بدأت أسراب الموجهين والمدرسين السابقين الذين كانوا قد عملوا في الكويت يحملون ما لديهم من أموال ليودعوها بربح 25% ويعملوا في مدرسة يقودها الأستاذ زهير الكرمي إن هذا لحلم كبير بالنسبة لهم.

أما أنا فقد عرضوا عليّ أن أكون من المساهمين في رأس مال المدرسة فاشترطت عليهم أن يكون توزيع الأرباح آخر العام 5% نقداً بدلاً من الـ 25% التي ستضاف إلى رأس المال على شكل أسهم فرفض المهندس هذا العرض ولم يكرر عرضه لي لأن عنده ما يكفيه من رأس المال فقد تجمع في المدرسة عدد من المدرسين وضعوا ما بجعبتهم من أموال لهذا المهندس وأصبحوا يعملون مدرسين عنده ويدفع لهم من أموالهم صدقة ولكن بشق الأنفس.

أما المهندس فقد جمع هذه الفلوس ووضعها في البنوك بأسماء أناس يثق بهم كي يسهل عليه التهرب من دفع المستحقات التي ستترتب عليه عند الأزمات وسيّر المدرسة مما يدفعه طلابها من أقساط وهذه الأقساط لم تف بالمتطلبات الأساسية وأصبحنا نعاني في تحصيل الرواتب وبدل أن يُصلح من أخطائه في مدرسته الأولى فتح مدرسة ثانية في مرج الحمام بعد أن وجد شريكاً يعطيه الأرض والمبنى مقابل أن يعطيه المهندس إدارة ومدرسين فزادت معاناتنا أكثر.

بعد السنة الأولى بدأت هذه المدارس التي تأملت فيها خيراً تتعثر ولم تعد الأقساط التي يدفعها الطلبة تفي بمرتباتنا فذهبنا إلى الأستاذ زهير الكرمي وقلنا له:إننا لا نعرف هذا المهندس من قبل بل نعرفك أنت نحن لولاك لما دفعنا له فلساً واحداً فما كان منه إلا دفع من جيبه الخاص كي تسير هذه المدارس لكن الحمل كان كبيراً وأكبر من إمكاناته بعدها أفلست هذه المدارس في منتصف السنة الثالثة وانفرط عقدها وأصبحنا نداوم في المحاكم لتحصيل رواتبنا المتأخرة منها وطارت الطيور بأرزاقها وأصبحنا بلا عمل وبلا فلوس هذه المرة وعدنا إلى المربع الأول.
