
إنتظرت تحرير الكويت وعددت الساعات التي إستغرقت في تحريرها فوجدتها مائة ساعة كنت فيها كالولد الذي غابت عنه أمه وينتظر قدومها على أحر من الجمر كي يشكو لها ما حلّ به في فترة غيابها من غمّ وهمّ وحزن وجوع وعطش وخوف ورعب وينتظر منها أن تعيد له مفاهيمها وقيمها التي ربّته عليها بعد أن كُسرت كل هذه القيم والمفاهيم في غيابها.

لكنني فوجئت بالكويت بعد عودتها من الأسر فوجدتها قد أنساها من كانت بعهدتهم أمومتها وقيمها ومفاهيمها وحنانها ومستقبلها بل حتى ماضيها بعد أن ألبسوها ثوباً غير ثوبها العربي! وفوجئت أكثر عندما كانت قد إحتضنت الأغراب ونسبتهم لقبائلها بدلاً من أن تحتضن أبنائها العرب بعد أن غيرت إسم الرئيس الأمريكي إلى بوش الكندري ظناً منها أنه سينقل لها الماء على ظهره وتستغني بذلك عن كندرية العرب.

وفوجئت أكثر وأكثر عندما أصبحوا يطاردون الفلسطينيين بعد أن أنهوا خدماتهم ولم يكتفوا بذلك بل استدعوا والدي مرة من المرات على الهاتف لمراجعة مخفر السالمية ولم أنم في تلك الليلة حتى عاد والدي في آخرها سالماً معافى وفرحت عندما طلبوا منا تسجيل أسماء الطلبة منا تمهيداً لحصر أعدادنا وتوزيعنا على مدارسهم وإذا بهم يحرموننا من التعليم في مدارسهم وبهذا أعادوني إلى المربع الأول الذي بدأت منه فراغ كبير وحبس في البيت.

أذكر أنني فرحت جداً عندما طلب والدي من صاحب مكتبة قريبة من بيتنا تبيع الكتب والقرطاسية كان من بين طلابه السابقين وأستاذي في زمن الاحتلال أن أداوم في مكتبته بأجر رمزيّ فوافق في الحال وكان دوامي فيها نقلة نوعية لي فقد جربت العمل والراتب وكونت علاقات صداقة مع من هم أكبر مني سناً وأتقنت البيع والشراء حتى أنني تمكنت من بيع سيارة والدي إلى مدرس كويتي عندما أردنا السفر من الكويت.

ولن أنسَ في يوم من الأيام ما حييت عندما هاجمنا نفر من المُستعرِبين في الكويت وليس من الكويتيين الأصليين في المكتبة التي كنت أعمل بها في شارع عمان وقالوا لنا:أنتم فلسطينيون ولا مكان لكم عندنا!فبعثني صاحب المكتبة لأستعين بالكويتيين الأصليين كي يُخرجوا هؤلاء الأعراب والمستعربين من المكتبة وفرحت أكثر عندما حضروا وأخرجوهم من المكتبة وهم صاغرون وفرحت جداً عندما قدِم جار لنا من الجنسية المصرية كان قد التحق بالجيش الكويتي وأحضر لنا من التموين ما كنا قد افتقدنا منذ مدة طويلة.

وفرحت عندما وزعوا علينا طروداً غذائية عشوائية وكان طردنا يحتوي على دجاجة كان لها وقع جميل على جميع أفراد الأسرة بعد أن تم طبخها مع البطاطا وهذه الدجاجة كان لها الأثر الأكبر في تغيير تقاليدنا في المستقبل فقد أصبح من صلب تقاليدنا في بيتنا أن نحتفل كل سنة في بداية شهر رمضان المبارك بأكل الدجاج مع البطاطا وفرحت عندما بدأت أمي تشتري لي الملابس والقرطاسية بالجملة كي أصطحبها معي إلى عمان وقد مر علي سنتان بعد الإقامة في عمان لم أشتر فيها ملابس ولا دفاتر.
كما وأرعبني الجنود الكويتيون قبيل دخولنا للمطار مغادرين إلى عمان ولم يكتفوا بذلك بل أهانوني أثناء التفتيش الجسدي ومنعوا والدي من مرافقتنا إلى داخل المطار بحجة أنه من مواطني دول الضد أي الأردن وفلسطين واليمن والسودان بالإضافة إلى العراق طبعاً لكن المشكلة لم تنته بمغادرتنا أرض الكويت فهي لا زالت قائمة فوالدي بقي في الكويت لتسوية حقوقه المالية فيها ولا زلت أشعر بالرعب الذي لن يزول من مخيلتي إلا إذا حضر والدي من الكويت وبقي معنا.
