أستاذ جميل عبود كتاباتك وخواطرك وقصصك جميلة ومعبرة وذات مغزى ومضمون وفيها سلاسلة وتتابع رائع وفقك الله إلى ما تحب ولك مني خالص الحب والتقدير أخوك وتلميذك/غسان مقداد/الكويت.
صاحبنا الذي أنوي أن أحدثكم عنه هو شاب صغير في السن من احدى قرى فلسطين كان قد ترك المدرسة في مطلع الستينات من القرن الماضي وسافر إلى الكويت ليبحث له عن عمل هناك وما أن وصلها حتى قبل بأول عمل عُرض عليه وهو مساعد ممرض في احدى المستشفيات وبعد فترة قصيرة من الزمن أتقن مهنته وأحبها وأخلص لها فعينوه ممرضاً مسؤولاً فزاده هذا الترفيع تواضعاً وأصبح صديقاً لكل من يدخل المستشفى مريضاً ويغادره سليماً.
كبر هذا الشاب وحان عنده وقت الزواج لكنه غريب الدار فلا أقارب ولا أصدقاء يستطيع أن يعتمد عليهم فقرر أن يستفيد من معارفه وبدأ في استعراض قائمة بأسماء الذين يدخلون عليه العيادة ليختار منها الشخص المناسب لهذه المهمة وبينما هو كذلك دخلت عليه احدى المراجعات فرأى فيها صورة أمه واختارها على الفور من دون أن يكمل استعراض بقية أسماء القائمة وعرض عليها مشكلته وطلب منها مساعدته في زواجه.
مصاب بالجدري
لم تخيّب هذه المرأة ظنه عندما قالت له:يوجد عند جيراننا بنتاً أرضاها لك يا ولدي فقال لها:وكيف لي أن أراها وتراني؟فقالت له:الجدري بدأ ينتشر في البلد وسأقنع سكان العمارة التي أسكنها بأهمية التطعيم وسأبلغهم بأن ممرضاً من وزارة الصحة سيحضر لتطعيمهم إلى البيت ليوفر عليهم عناء رحلتهم إلى المستوصف وسأضرب لهم موعداً مناسباً أفضله أن يكون يوم الجمعة القادم عندها تحضر أنت في هذا الموعد ومعك المطاعيم اللازمة وتبدأ في تطعيم الجميع وعندما يأتي دور البنت أعطيك بيدي إشارة ومعها كلمة من لساني إذا احتاج الأمر فإذا أعجبتك البنت ما عليك إلا أن تترك الباقي عليّ يا ولدي.
وبدأ صاحبنا في تطعيم أفراد العمارة
وجاء الموعد المحدد بينهما وجهز صاحبنا حقيبته الطبيّة وارتدى ثوبه الأبيض وذهب للعمارة التي تسكن فيها عروس المستقبل لكن بصفة رسمية وبدأ في تطعيم أفراد العمارة فرداً فرداً إلى أن جاء دور العروس المُقترحة فأشارت المرأة إليها بيدها ففهم إشارتها وأخذ يتمعن فيها جيداً دون غيرها من النساء ورأى منها ما لا يمكن أن يراه العريس من عروسته في الوضع الطبيعي فأعجبته هذه العروس وما كان منه إلا أن أعطى هذه المرأة إشارة البدأ في الدخول في التفاصيل معها ومع أهلها.
تنكة زيت زيتون من فلسطين لم يفتحها بعد
وبعد أن مهدت هذه المرأة له طريقاً معبداً عند العروس وأمها وما أن طلبها من أهلها حتى وجدهم قد وافقوا على زواجه منها وبعد أن تزوجها إحتار في ما سيقدمه لهذه المرأة التي ساعدته في بناء حياته الزوجية وبقي كذلك إلى أن جاءه الحل من والدته التي تعيش في فلسطين فقبل يومين ماضيين كانت أمه قد أرسلت له تنكة زيت زيتون من فلسطين لم يفتحها بعد ولم يذق طعمها فحملها كما وصلته وأعطاها لهذه المرأة هدية ومكافئة لها.
بعد أن إجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، وانتشرت فيها كالجراد الجائع، آكلين الأخضر واليابس، وفاتحين مخازنها، وناهبين ما بداخلها، أصبحت الكويت بعد ذلك قاعاً صفصفاً، بعد أن كانت جوهرةً للخليج. وانقلب الحال رأساً على عقب، فقد أصبحت الحاجات الأساسية متوفرة في مدينة البصرة، أكثر منها في الكويت. زد على ذلك أن البيع والشراء في البصرة بالدينار العراقي، وهو متوفر لدينا، عكس الشراء في الكويت الذي كان بالدينار الكويتي، الذي أصبح يختفي رويداً رويداً من بين أيدينا، أما نحن الوافدون إلى الكويت، فقد إنقطع الإتصال بيننا وبين أهلنا، ولم يعد بيننا وبينهم أي إتصال،مما سبب لنا ولهم مزيداً من القلق، وما أن إنتهت هذه الحرب، حتى وجدنا أن معظم الآباء والأمهات، قد أصيبوا على إثرها بمرضي الضغط والسكري.
بضاعة الكويت أصبحت موجودة في البصرة
وفي خضم هذا الواقع الجديد ارتأيت، أن أذهب إلى مدينة البصرة، كي أضرب عصفورين بحجر واحد، أتصل بأهلي لأطمئن عليهم، وأطمئنهم عن أحوالنا، وأشتري ما تحتاج له عائلتي من مواد تموينية بكميات أكبر، وأنا في الواقع، سأشتري بضاعة الكويت، ولكن من البصرة، ونسيت أن أنبه القارئ، إلى أن الحدود الكويتية العراقية أصبحت مفتوحة، ولم يعد لكرت الزيارة من ضرورة، فقد أصبحنا مثل أوروبا، نتحرك بالهوية الشخصية، وأصبحت مراكز الحدود بين الجانبين مهجورة، بعد أن كانت في الماضي، تعج بالموظفين والمسافرين.
العبدلي
ركبت سيارتي، واتجهت إلى البصرة، وقبل وصولي إلى العبدلي، وجدت نفسي أقف في طابور طويل من السيارات، لم أسأل غير نفسي عن سبب الوقوف، بعد أن تعودنا على الوقوف بالطابور مراراً وتكراراً، وإذا بجندي عراقي، يمر على كل سيارة في الطابور، ليقول لسائقها: إنتظر عيني داخل سيارتك، وافتح شبابيكها، ولا تسألني عن السبب، وبقيت على هذا الحال حوالي الساعة، دون أن أعرف سبباً لوقوفي، وخلال هذه الساعة تذكرت العبدلي، وأنا الذي أعرفها جيداً، وأعرف مكانتها، فعندما كنت أصلها قادماً للكويت من الأردن، مروراً بالعراق، كانت هي المكان الوحيد، الذي كنت آكل فيه، وأشرب العصير، والماء البارد، دون أن يطاردني الذباب ليأكل معي، ومنها كنت أتصل بالعالم الخارجي، لأطمئن الأهل والأصدقاء عني، وما أن انتهيت من هذا الحلم، حتى رأيت القوم مشغولين، فسألت نفسي بنفسي: فيم ينشغل القوم يا ترى؟.
وإذا بالمئذنة تهوي على الأرض
خطر في بالي لأول وهلة، أنهم يحلون الإشكال اللغوي الأزلي بين الكوفيين والبصريين، بعد أن حققوا الإنتصار العظيم على أرض الكويت، أو أنهم يدرسون خطة، لسحب مياه شط العرب، وتزويد الفرع «الكويت» من الأصل «العراق»، بعد أن رأوا بأم أعينهم، أن الفرع تنقصه مياه الأصل، وقد سرحت في خيالي أكثر، ونظرت أمامي، فلم أجد غير مئذنة المسجد الشامخة، لأركز نظري عليها، للتغلب على دقائق الإنتظار، وإذا بالمئذنة تهوي على الأرض، بطولها وعرضها، وسقف مسجدها يلامس سطح الأرض، ويصاحبه صوت انفجار ضخم، وتظهر سحابة من الغبار الكثيف، تلف المنطقة كلها.
فقلت في نفسي: يا للهول، أوصل الأعداء إلى هنا؟ لكن الأعداء حسب معلوماتي، يفجرون (مفاعلا نووياً)، ولا يفجرون مسجداً، إذن فقد عاد (الحجاج) ثانية،لكنه هذه المرة، لم يُعلّق جثة على أسوار الكعبة، كما فعل في الماضي، ويركع بعدها لله تعالى، بل أركع المسجد والمئذنة، هذه المرة له ، كي تصبح سابقة في التاريخ الحديث، والغريب في الموضوع، أن العراقيين بعدها، قاموا بتحديث العلم العراقي، وأدخلوا عليه، عبارة (الله أكبر) مرتين، مرة لهدم المسجد، والأخرى لهدم المئذنة، دون أن يراهم أحد، ومما زاد الطين بلة، أن بعض المسلمين في أرض الحشد والرباط، وأكناف بيت المقدس، كانوا قد شاهدوا صورة هذا الحجاج على وجه القمر في تلك الليلة.
تماثيل على شط العرب لكل جنرالات الجيش العراقي
وعندما وصلت البصرة، ذهبت إلى شط العرب، الذي كنت أحلم برؤيته في صغري، فقد كان إسمه يستهويني، فرأيت كل جنرالات الجيش العراقي العظام، الذين إستشهدوا في الحرب العراقية الإيرانية، كأنهم أحياء يرزقون، لهم تماثيل تجسدهم، وهم يمدون يداً، باتجاه العدو الإيراني، وتحت كل تمثال من هذه التماثيل، كُتب إسم صاحبه، ورتبته العسكرية، ويوم إستشهاده، والمعركة التي كان قد استشهد فيها، وفوق كل ذلك عبارة: لكي لا ننسى، فلم أتمالك نفسي، بعد أن إقتربت من أحد هؤلاء القادة العظام، وهمست في أذنه باللهجة الخليجية: خُبرك عتيج يا سيادة القائد، فقد غيّرت قيادتك الإتجاه، وأنت لا تعلم سيدي،رحمك الله، ورحم كل شهداء العراق معك.
بعد أحداث حرب الخليج الثانية عام 1991 مباشرة، استغل بعض الصحفيين الأفاضل تسلسل الأحداث اليومية الخطيرة المتتالية وأخذوا في التلاعب بالكلمات لتسويق صحفهم وزيادة مبيعاتها. في أحد تلك الأيام بينما كنت أسير في شارع سقف السيل في مدينة عمّان، قرأت عُنواناً لصحيفة من الصحف الصفراء التي كانت تعرض على رصيف الشارع يقول بالخط العريض: “انقلاب في دولة الكويت” وتحته بالخط العادي راجع صفحة 7. وكانت الأحداث وقتها ساخنة والوضع لا يحتمل مثل هذا الحدث الكبير، وعلى الفور اشتريت الجريدة مُتلهفاً وفتحت على الصفحة رقم 7 المطلوبة وإذا بالعنوان قد تغير ليصبح انقلاب شاحنة في دولة الكويت.
سليمان هذا الذي أنوي أن أحدثكم عنه كان أحد طلابي في ثانوية حولي المسائية بدولة الكويت التي كانت تديرها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1975، وكان في ذلك الوقت شاباً طويل القامة عريض المنكبين أسمر البشرة مفتول العضلات يعود بأصله إلى إحدى قرى فلسطين، أما لماذا لم أنسه طيلة هذه السنين فلأنه من الناس القلائل الذين لم يضعوا القناع على وجوههم ولم يُغيروا جلودهم في الأيام التي كانوا قد عاشوها في الكويت، فبقي بسيطاً كبساطة الناس في قريته وصريحاً كصراحتهم.
طبق السلطة الذي أخّره عن الحصة
في أحد الأيام حضر هذا الطالب متأخراً عن الحصة وكان عندي تقليد أن لا يدخل الصف أي طالب بعد دخولي، وعندما قرع باب الفصل ليدخل لم أسمح له بالدخول فقال: أستاذ ممكن تسمع عذري عن التأخير ولكن بيني وبينك؟ قلت له: حسناً، واقتربت منه أكثر كي لا يسمعنا أحد وقلت له: هات ما عندك، فقال: نحن في البيت ثمانية أولاد وأبي تاسعهم وأمي مسؤولة عن إطعام كل هؤلاء جميعاً، وعندما جاء موعد الغداء طلبت مني والدتي أن أساعدها في تجهيز السلطة فأطعتها فتأخرت عن حصتك.
مدينة عمان
تعاطفت مع هذا الشاب وأعجبتني صراحته وبساطته وسمحت له بالدخول، وبعد هذه الحصة أصبحنا أصدقاء وتعرفت عليه أكثر وبقيت صداقتنا إلى أن تخرج هذا الطالب من هذه المدرسة فغاب عني وانقطعت أخباره إلى أن التقيته صدفة في مدينة عمان فأخذني بالأحضان وقال: أتعرفني؟ قلت: وهل أنساك؟ قال: من أنا؟ قلت: أنت من كنت تُحضر طبق السلطة لعشرة أشخاص قال: ما شاء الله عليك ذاكرتك قوية قلت: صراحتك وبساطتك هي التي حافظت على ذاكرتي، قال: ما شاء الله عنك.
قال نعم تزوجت وعندي طفلتان
قلت: خبرني يا سليمان عن أحوالك في هذه الحياة بعد هذا الغياب الطويل هل تزوجت؟ قال: نعم وعندي من زوجتي طفلتان فقلت له: هذا يعني أنك كنت قد اكتشفت فوائد الزواج مبكراً إن كان له من فوائد فقال: فوائد الزواج كثيرة يا أستاذي أهمها أن هذا الزواج كان قد عرّفني على اسمي الحقيقي بعد أن أنستني إياه أمي وأختي سامحهما الله.
أردوغان وهو يقبل يد أمه
قلت: وكيف ذلك؟ قال: عندما كنت أعزباً أعيش مع أمي لا أذكر يوماً من الأيام كانت قد نادتني فيه باسمي الحقيقي بل دائماً ما كانت تناديني يا قشيلان فقلت: والآن بماذا تناديك زوجتك؟ قال: تزوجت من امرأة شامية وعندما نادتني لأول مرة: ابن عمي سليمان… تؤبرني… غلي ألبي عليك ابن عمي، فذكرتني باسمي الحقيقي بعد أن أنستني إياه أمي طيلة هذه السنين سامحها الله، فما كان مني إلا أن ضحكتُ ضحكة لم أضحكها من قبل وقلت في نفسي: صدق من قال أن من شبّ على شيء شاب عليه.
بعد أن احتل الرئيس الراحل (صدام حسين) الكويت وألحقها بالعراق وسماها (المحافظة التاسعة عشر) قام بتعيين (أبو رحاب) مسؤولاً عن التربية والتعليم في الكويت وأبو رحاب هذا هو ضابط كبير في الجيش العراقي (نسيت رتبته الآن) كان عليه أن يُدير وزارة التربية في الكويت وعلى الصعيد الشخصي قام أبو رحاب هذا بتغيير إسم المدرسة التي كنت أعمل بها من (ثانوية عبدالله السالم) إلى (ثانوية صدام حسين) ولم يعجبه مكاني فنقلني إلى (ثانوية الجابرية) بدلاً من ثانوية عبدالله السالم.
تاج للطالب القدوة
وقام أبو رحاب هذا بفرض نظام بغداد التعليمي على المدرسة التي كنت أعمل فيها ففي يوم 23 تشرين الثاني من كل عام يتم إختيار (الطالب القدوة) من كل فصل دراسي على أرض العراق على أن يكون هذا الطالب مُهذباً ومُتفوقاً في دراسته ومُتعاوناً مع زملائه كي يكون جديراً بالثقة التي ستمنح له من قبل زملائه الطلاب حيث ينتخبه طلاب صفه تحت إشراف مدير المدرسة ومعه معلمون آخرون ويُنظّمون محضراً رسمياً بذلك.
طالب مسجل بالكشف لكنه لا يداوم
وفي الصف الذي كنت أدرّسه في ثانوية الجابرية للبنين كان هناك طالب مُسجّل عندي في الكشف لكنه لا يداوم أبداً حتى أنني لم أتعرف على شكله مطلقاً وبقيت على هذا الحال إلى أن جاء يوم إنتخاب الطالب القدوة في صفه الذي تصادف مع غيابي عن المدرسة في ذلك اليوم لأمر هام وفي غيابي تم إنتخاب الطالب القدوة وفي اليوم التالي سألت عن الفائز بلقب بهذا اللقب فقالوا لي: إنه فلان أي الطالب الذي لم يُداوم أبداً والأدهى من ذلك أنه فاز بالتزكية وبدون أي مُنازع.
أعدكم إذا انتخبتموني أن أقف في وجه المدير والمدرسين
حيّرني هذا الأمر واختليت بطالب مُجتهد خلوق أرشحه ليكون الطالب القدوة وسألته عن الذي حصل؟ وكيف فاز فلان هذا بالتزكية؟ فقال لي هذا الطالب: عندما سمع فلان هذا عن الطالب القدوة وامتيازاته حضر في يوم الإنتخابات فقط وأغلق علينا الباب وقال لنا: إسمعوا وعووا أيها الزملاء أنا لست قدوتكم ولن أكون كذلك في يوم من الأيام ولكنني أعدكم إذا إنتخبتموني أن أقف في وجه المدير والمدرسين وأحصّل لكم حقوقكم منهم أما إذا إنتخبتم القدوة الحقيقي فسيكون مؤدباً معهم ولن يستطيع مُجابهة الإدارة والمدرسين وبالتالي ستضيع حقوقكم وأنتم أحرار فيما تختارون بعدها جاء المدير ومعه طاقم الانتخابات وانتخب جميع طلاب الصف فلان هذا وسجل المدير وطاقمه في المحضر بأن فلاناً فاز بالتزكية.
هل يختلف هذا المشهد كثيراً عن ما يحدث في انتخاباتنا العربية؟.
هذا ما حصل في صفّ دراسيّ من طلاب صغار لا يعرفون اللفّ ولا الدوران بعد لكن وُجد من يربط مصالحهم الوهمية بنفسه ويفوز بالقدوة والسؤال الآن: هل يختلف هذا المشهد كثيراً عن ما يحدث في إنتخاباتنا العربية؟ فهناك في كل إنتخابات أناس يخلقون لكم أهدافاً وهمية ويربطون تحقيقها بأنفسهم وعندما ينتخبهم الناس تطير الأهداف ويبقون هم في السلطة وبعد أن يتمكنوا منها يُورّثونها لأولادهم من بعدهم ويهدون ما تبقى منها لأصدقائهم وأقاربهم ومعارفهم.
الإسلام هو الحل ولكنهم لم يقولوا لكم أي إسلام يريدون؟
فانتبهوا يا سادة و يا كرام إلى ما يقوله لكم المرشحون في أية انتخابات يخترعونها لكم وعليكم في هذه الحالة أن تميّزوا بين الشعارات مُمكنة الحدوث وصدّقوها وانتخبوا أصحابها ولا تصدّقوا أهل الشعارات غير مُمكنة الحدوث ولا تنتخبوا من ينادون بها فهي شعارات وهمية خلقوها لكم ليركبوا عليها وبعد أن تتبخر شعاراتهم هذه سيركبون على ظهوركم ولن ينزلوا لأن من يعتاد على الركوب يصعب عليه النزول.
في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي كانت (ثانوية عبدالله السالم) لمن لا يعرفها من أشهر المدارس الثانوية في دولة الكويت على الإطلاق، وكان مديرها الأستاذ (جمعة ياسين) في ذلك الوقت يختار لها النخبة من المدرسين في كافة التخصصات، ومن منهم لم يُثبِت جدارته في التدريس كان يستغني عنه في الحال دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى. وكان طلبتها من كافة الدول العربية متعطشين إلى العلم وفي مسرحها كان يلتقي قادة المقاومة الفلسطينية بالجماهير العربية المتواجدة على أرض الكويت مثل أبو عمار وأبو إياد وأبو اللطف وغيرهم الكثير الكثير.
يونس شلبي
وفي سنة 1976 شاءت الأقدار وانتقلت إلى هذه المدرسة العريقة، وما أن دخلتها لأول مرة حتى لفت انتباهي مدرس أول الرياضيات الذي كان قد استقبلني بحكم المهنة، وبعد هذه المقابلة احترت في ما رأيت وفيما سمعت، وتساءلت بيني وبين نفسي: كيف تنجح مدرسة بهذا الشكل وفيها مثل هذا المدرس الأول الذي يشبه الممثل (يونس شلبي) في مسرحية مدرسة المشاغبين؟ فكان يشبهه في طريقة كلامه وفي تصرفاته. وبعد أن انتهى اجتماعه معي اخترت مكاناً في غرفة المدرسين وجلست فيه وفي الحال سألت من كان يجلس بجانبي من المعلمين دون أن أعرفه نفس السؤال الذي كنت قد سألته لنفسي فأجابني هذا المدرس وقال:
من مدرسي ثانوية عبدالله السالم في نهاية سبعينات القرن الماضي من اليمين:محمد مهنا وعادل أبو ريا ومحمد الشحات وجميل عبود وبدوي البردويل
بعد أن عُين الأستاذ جمعة ياسين مديراً للتعليم الخاص جاء بعده مدير آخر، فأصبحت المدرسة مطمعاً لمن يمتلك الواسطة من المدرسين، وكان هذا المدرس شكلاً وموضوعاً مدعوماً وتم نقله إلى هذه المدرسة بالواسطة، لكنه لم يفلح في التدريس فكان عليه أن يغادر المدرسة كما هي العادة. لكنه كان (مدعوماً) فما هو الحل إذن؟ فجأة رُفّع مدرس أول الرياضيات إلى مُوجّه وأصبحت المدرسة بحاجة إلى مدرس أول بدلاً منه ليكون مسؤولاً عن سبعة عشر مدرساً للرياضيات فيها وأنت منهم. وانشغل هؤلاء القوم، وأشار بيده إلى زملائه من المدرسين، في تسمية مدرس أول بديل من بينهم، وإذا بصاحبنا قادم من عند المدير وما أن سمع الحوار الدائر بين هؤلاء المدرسين حتى قال لهم: اسمع يا واد إنت وهو، أنا من سيكون المدرس الأول عليكم.
وقف المدرس على الطاولة ورفع الأذان في المدرسة
ضحك القوم وانفعل أحدهم وقال: إذا أصبحت يا فلان مدرساً أول سأرفع الأذان من فوق هذه الطاولة التي أمامي، وضحك الجميع على ما سمعوا فأجابه صاحبنا بكل ثقة: إذن غداً تعال للمدرسة حافظاً للأذان جيداً لأنك سترفعه من هذا المكان ومن فوق هذه الطاولة. جاء الغد، وإذا بنشرة داخلية صادرة عن مدير المدرسة تمرر على المدرسين للتوقيع عليها تُسمي صاحبنا مدرساً أولاً لقسم الرياضيات فيها، وعلى الفور طلب صاحبنا من زميله أن يرفع الأذان كما وعد فما كان من هذا المدرس إلا أن صعد فوق طاولته ونفّذ وعده.
أدار قسم الرياضيات كما لعب يونس شلبي دوره
بعد أن استلم صاحبنا زمام الأمور في المدرسة أدار قسم الرياضيات كما كان يلعب يونس شلبي دوره في مسرحية مدرسة المشاغبين، وانشغل فينا قبل أن ننشغل به. فكان يعطي كلاً منا ثلاث شُعب وبعد أن نتعرف على الطلاب ويتعرفوا علينا يقوم بتبديل المدرسين كي نعود إلى النقطة التي بدأنا منها. وهكذا تمكن هذا المدرس الأول من أن يشغلنا ويشغل الطلاب بما لا ينفعنا أو ينفعهم، وكانت المدرسة آخر همومه فكان يعمل في التجارة وفي تحويل العملة، وعندما يخلو له الجو يشعل نار التعصب والعصبية والإقليمية بين المدرسين.
أكيد أن الآذان رُفع مئات المرات في شركاتنا ومدارسنا وحتى حكوماتنا لكن دون أن يسمع به أحد.
كانت أسرة المرحوم أبو إياد (الرجل الثاني في حركة فتح) قبل اتفاقية (كامب ديفد) الشهيرة تقيم في القاهرة وعندما اعترضت حركة فتح على هذه الإتفاقية غضب الرئيس (أنور السادات) منهم وقام بطردهم من مصر، وعلى إثرها أحضر أبو إياد أسرته لتقيم في الكويت، أما إبنه (إياد) فقُبل طالباً في ثانوية عبدالله السالم حيث كنت أعمل مدرساً للرياضيات. وبعد أن ذهب إياد لفصله الجديد وجد فيه مدرس الرياضيات، والذي هو من أصل فلسطيني، يشرح لطلابه نظرية (فيثاغورس).
المرحوم صلاح خلف (أبو إياد)
قام إياد بقرع الباب كي يسمح له المعلم بالدخول، لكن هذا المعلم كان منهمكاً في الشرح فلم ينتبه له فذكّره أحد الطلبة بوجود طالب جديد يقف على الباب، وعلى الفور سأل المعلم هذا الطالب عن اسمه دون أن يرى شكله فقال له الطالب: اسمي إياد صلاح خلف، وأكمل المعلم: طيب فهمنا، وماذا يعمل والدك؟ وهنا أوقع هذا المدرس طالبه في حرج كبير، فاحمرّ وجه الطالب من هذا السؤال غير المتوقع، ورأى أن يجيب معلمه بجواب غير متوقع مثله، فقال له الطالب: أنا أعيش هنا عند عمي، وليس عند والدي وبعد برهة من الوقت تذكر هذا المعلم أنصلاح خلف هو نفسه أبو إيادوأن هذا الطالب الذي يقف أمامه هو إياد نفسه بشحمه ولحمه. وللخروج من هذا الموقف الساذج أنحى الأستاذ باللائمة على فيثاغورس، وحمّله مسؤولية ما حدث. وبعد انتهاء الحصة حضر هذا المعلم إلى غرفة المعلمين وحدثنا بما كان قد حدث معه في الفصل.
في أحد الاجتماعات التي كانت تُعقد بين أولياء الأمور والمدرسين في إحدى السنوات السابقة التي كنت قد قضيتها مدرساً للرياضيات في ثانوية عبدالله السالم في دولة الكويت في ثمانينات القرن الماضي، حضر إلى المدرسة ولي أمر الطالب (أديب سليم الزعنون) وكان والده في ذلك الوقت (معتمد حركة فتح في الخليج العربي)، وعندما التقى بمدرس ابنه في المدرسة انهال عليه ذلك المدرس (الفلسطيني) شرحاً وتوضيحاً لأهداف حركة فتح دون أن يعرف مع من هو يجلس، وولي الأمر يستمع له بكل أدب واحترام، وبقي يشرح له إلى أن تذكر أخيراً أنه يجلس مع أبو الأديب، فأنهى الحوار معه بسرعة وعاد إلينا في غرفة المدرسين ليخبرنا بما كان قد حصل معه.
في نهاية ثمانينات القرن الماضي، كنت أعيش في دولة الكويت، وفي أحد الأيام، كنت أركب سيارتي من طراز تويوتا، وتحمل لوحة كويتية، مثلها مثل باقي السيارات، وأسير بها في أحد شوارع الكويت، توقفت السيارة التي كانت تسير أمامي، فوقفت خلفها على الفور، وأخرجت يدي اليسرى من الشباك بحركة لا إرادية، مؤشراً لقائد السيارة التي من خلفي بالتمهل، والانتباه أكثر، وإذا بها سيارة من سيارات شرطة النجدة الكويتية، فما كان من الضابط الموجود بداخلها، إلا أن أمسك بمايك سيارته، وصاح بأعلى صوته: راعي التيوتا، أنت فيالكويت، ولست فيالأردن، عليك أن تستخدم الفليشر، بدلاً من يدك اليسرى.