القمح
عندما تحكي العيون

تركتهم مُسافراً إلى خارج الوطن عندما كنت صغيراً في السن، وهم يأكلون ويشربون ويدخنون وينسجون سِلالهم ويلعبون الورق والمنقلة والسيجة والمدفونة تحتها، بل وحتى يلاعبون أطفالهم داخل ساقها، ويقطفون من ثمارها قبيل أن تنضج فيصنعون منها زيتوناً أخضر، وزيتوناً أسود عندما تنضج تلك الثمار. أما عندما تفرغ جرارهم من الزيت، فيجمعون الناضج من ثمارها وتقوم النساء بهرسه بـالمدرس اليدوي ثم يضعون الثمار المهروسة في الماء المغلي فيطفوا الزيت على سطح الماء، بعدها تقوم النساء بجمعه بأيديهن ويسمونه (زيت الطفاح) وعندما يأكلونه يشعرون بحرقة مُحببة على اللسان.

ومن منهم لا يعجبه حرقة زيت الطفاح يقوم بقطف الثمار الناضجة والتي بدأت تلون نفسها بنفسها، ثم يضعها في نار تعد خصيصاً لذلك باستخدام (النتش) في إشعالها، ثم يقوم بدقها وتنعيمها ثم يعصرها بيديه، وهذه العملية تتطلب قوة ومهارة وخبرة فليس كل رجل يستطيع أن يعصر هذا المزيج ويخرج منه زيت (البدودية) الذي عندما يأكلونه يتذوقون فيه رائحة الشواء اللذيذة.

أما إذا احتاجوا إلى الدفء في شتائهم البارد فهم يقطعون من ساقها قطعاً تناسب مدافئهم، ومن أغصانها قطعاً أصغر، ومن أوراقها يُشعلون النار فيما يقطعون. وبعد أن تشتعل النار في كوانينهم يضيفون إليها من جِفتها المخزون عندهم لتبقى النار دائمة الاشتعال، فتنبعث الحرارة للجميع وتخلصهم من برد الشتاء القارص، وعلى أطراف هذه النار يشوون البطاطا والعجرم والبلوط والباقوس ومنها يأكلون في سهراتهم.

وتقوم الجدة بسرد القصص والحكايات والأساطير القديمة لأحفادها، وفي حالة غيابها تقوم الأم بدورها في انتظار قدوم زوجها بعد أن تنتهي سهرة الرجال في مضافتهم، أما إذا تملك الأولاد شيءٌ من النعاس، فتقوم الأم بقلي البقوليات لأولادها، وبهذا كانوا يتغلبون على ليالي الشتاء الطويلة، فلا يخافون الرعد الذي يتلو البرق بعد أن يضيئ عليهم ليلهم ويخيف صغارهم.

أما إذا احتاجوا إلى وعاء للعجين، فمن جذورها يصنعون الباطية، وإذا احتاجوا إلى أوعية منها يأكلون فمن أغصانها يصنعون الكرمية. أما إذا أرادوا تسريح شعورهم فمن خشب جذورها يصنعون أمشاطاً فيها يتباهون ويفتخرون. وإذا أرادوا تجميل عيون نسائهم ويناتهم فمن خشبها يصنعون المرواد لإخراج الكحل من المكحلة ثم وضعه في العيون. وإذا بدأ الملل يتسرب إلى حياتهم فمن جذورها يصنعون الغليون ليُدخنون ما كانوا قد زرعوا من الدخان.

ومن جذورها أيضاً يصنعون أداة للعزف اسمها الشِّبابة، ومن خشبها أيضاً يصنعون الهاون ليدقون به قهوتهم التي يشربون، ومن خشب ساقها يصنعون لعبة المنقلة التي بها يتسلون، ومن عجم ثمارها يصنعون مسابحهم. أما إذا احتاجوا إلى أوعية يحملون بها حاجاتهم فمن خرصانها ينسجون السلة والقرطلة والسل والملقطة، أما إذا احتاجوا إلى ملاعبة أطفالهم فيصنعون لهم من أغصانها الصقير والمرتى والكورة ليلعبون.

ومن ثمارها يخترعون لعبتهم المفضلة ألا وهي المدفونة، فيقومون بدفن ثمارها قبل أن تنضج في التراب ويحصل كل منهم على شوكة سويد طويلة ويقوم بغرسها في التراب فتخرج ومعها حب الزيتون المدفون، وتنتهي هذه اللعبة بعد إخراج كل الحب المدفون ومعرفة الفائز فيها.
وعندما يحتاجون إلى أداة لفصل قمحهم عن القش يصنعون المذراة وإذا احتاجوا إلى تحميل زرعهم وإحضاره من الحقل إلى البيدر فيصنعون الحمالة لدوابهم فتنقلهم إلى حيث يشاؤون.

أما إذا احتاجوا إلى عصا ليتكئوا عليها في مشيتهم حيناً أو لحملها والتشبب والتفاخر بها أحياناً أخرى، فقد كان المرء في الماضي يُعرف من عصاه التي يحملها لا من سيارته كما هو الحال في هذه الأيام، فمن أغصانها يقطعون ويتفننون في صناعة عصيهم. أما عندما تعلو ثمار أشجارهم ولا تطولها أيديهم فمن أغصانها يقطعون ويصنعون العبّية، وهي عصا طويلة تُستعمل لقطف الثمار البعيدة. وإذا علت الثمار أكثر فيصنعون من أغصانها الـذيّال وهي الأخت الكبرى للعبّية، لإسقاطها على الأرض ثم تناولها.

حتى النحل يضع ملكته وعسله وشمعه أمانة عندها، فبعُلوّها وتمنع الأعداء من الوصول إليه أو التمكن منه، وتلجأ لها بقية الحيوانات صيفاً وتحت ظلالها يقيلون ويربطون في ساقها دوابهم فتحافظ لهم عليها من الهروب أما أوراقها عندما تسقط على الأرض فتكون سماداً عضوياً لأرضهم التي بها يزرعون وعندما يجمعونها يستخدمونها زبلاً لطوابينهم التي بها يخبزون ومن سكنها يسمّدون أرضهم وفيها بالشتاء يجلسون.

وعندما تنضج ثمارها يعصرونها ويستخرجون منها زيتاً فيه شفاء للناس، ويضعونه بقناديلهم لإزالة الظلام من حولهم، أو من حول قبور أولياء الله الصالحين التي يضيئونها في بعض المناسبات الخاصة أو العامة ومن زيتها يصنعون الصابون. أما إذا احتاجوا المال فيبيعون خشبها وثمارها وزيتها وزيتونها وجفتها وأرضها ويحققون ما يطلبون فهل عرفتم من تكون هذه الشجرة العظيمة؟ إنها شجرة الزيتون المباركة.

عدتُ بعد غياب دام ثلاثين عاماً ونيف فوجدتها في حالة يرثى لها، وجدتها تبكي على حالها فشفقت عليها وسألتها: ما الذي يُبكيك يا شجرتنا المباركة؟ فأجابتني ودمعُ العين يسبقها: لقد انعدم الوفاء بين الناس في غيبتك، فقد غيّروا اسمي وأصبحوا يُسمونني العرقوب بعد أن تساقطت أوراقي وقلت أغصاني ونحفت ساقي وماتت معظم جذوري، فلا طير ولا نحل يحوم حولي، ولم يعد أحد من الناس يجلس تحتي لا صغاراً ولا كباراً بل تركوني وحيدة، ولم يعد أحد منهم يريد ثماري. وعندما أصبحت بحاجة إلى من يسندني ويرعاني تحوّلوا عني إلى شجرة أخرى كانت بالأمس أمامي صغيرة.

قلت لها: لا تحزني يا عزيزتي، أريدك أن تفهمي أن مصيرك هذا هو مصير كل حيّ في هذه الحياة: ما دام يُعطي فالجميع حوله والكل يطلب ودّه ورضاه، فالإنسان ياعزيزتي عندما يكون قويّاً فإن الناس يضعون عنده أماناتهم وأسرارهم وحكاياتهم، ويتمنون التحدث معه وإضحاكه، ويُحاولون الاستفادة من كل أشيائه ابتداءً من اسمه ومروراً بممتلكاته، وانتهاءً بوفاته أما عندما يضعف هذا الإنسان فينفض الناس من حوله ويتنكرون لماضيه وحاضره.

عليك عزيزتي أن تأخذي درساَ من الإنسان، ولا تحزني فالإنسان عندما يصبح عرقوباً يفقد السيطرة على جسمه، ولن يجد من يساعده ويشعر بضعفه، ولا يجد من يسمعه، وينتظر ردّ الجميل ممّن حوله فلا يجد من يُقدّره، عندها يكتشف أنه أصبح عبئاً على من حوله، فيصمت لسانه وتتكلم عيونه، ويبدأ بمراقبة من حوله مُستعرضاً ماضيهم واحداً تلو الآخر، لكنه لا يستطيع تذكيرهم بماضيهم عندما كانوا ينتظرون منه ولو ابتسامة. وسرعان ما يكتشف أن الأبعد عنه اليوم كان بالأمس هو الأقرب إليه، لكنه أخطأ في استشراف حقيقة الناس من حوله، ولكن الأوان قد فات لاستدراك ذلك الخطأ.
