المكان:العبدلي ـ الكويت
الزمان:28أغسطس1990

بعد أن إجتاحت القوات العراقية دولة الكويت، وانتشرت فيها كالجراد الجائع، آكلين الأخضر واليابس، وفاتحين مخازنها، وناهبين ما بداخلها، أصبحت الكويت بعد ذلك قاعاً صفصفاً، بعد أن كانت جوهرةً للخليج. وانقلب الحال رأساً على عقب، فقد أصبحت الحاجات الأساسية متوفرة في مدينة البصرة، أكثر منها في الكويت. زد على ذلك أن البيع والشراء في البصرة بالدينار العراقي، وهو متوفر لدينا، عكس الشراء في الكويت الذي كان بالدينار الكويتي، الذي أصبح يختفي رويداً رويداً من بين أيدينا، أما نحن الوافدون إلى الكويت، فقد إنقطع الإتصال بيننا وبين أهلنا، ولم يعد بيننا وبينهم أي إتصال،مما سبب لنا ولهم مزيداً من القلق، وما أن إنتهت هذه الحرب، حتى وجدنا أن معظم الآباء والأمهات، قد أصيبوا على إثرها بمرضي الضغط والسكري.

وفي خضم هذا الواقع الجديد ارتأيت، أن أذهب إلى مدينة البصرة، كي أضرب عصفورين بحجر واحد، أتصل بأهلي لأطمئن عليهم، وأطمئنهم عن أحوالنا، وأشتري ما تحتاج له عائلتي من مواد تموينية بكميات أكبر، وأنا في الواقع، سأشتري بضاعة الكويت، ولكن من البصرة، ونسيت أن أنبه القارئ، إلى أن الحدود الكويتية العراقية أصبحت مفتوحة، ولم يعد لكرت الزيارة من ضرورة، فقد أصبحنا مثل أوروبا، نتحرك بالهوية الشخصية، وأصبحت مراكز الحدود بين الجانبين مهجورة، بعد أن كانت في الماضي، تعج بالموظفين والمسافرين.

ركبت سيارتي، واتجهت إلى البصرة، وقبل وصولي إلى العبدلي، وجدت نفسي أقف في طابور طويل من السيارات، لم أسأل غير نفسي عن سبب الوقوف، بعد أن تعودنا على الوقوف بالطابور مراراً وتكراراً، وإذا بجندي عراقي، يمر على كل سيارة في الطابور، ليقول لسائقها: إنتظر عيني داخل سيارتك، وافتح شبابيكها، ولا تسألني عن السبب، وبقيت على هذا الحال حوالي الساعة، دون أن أعرف سبباً لوقوفي، وخلال هذه الساعة تذكرت العبدلي، وأنا الذي أعرفها جيداً، وأعرف مكانتها، فعندما كنت أصلها قادماً للكويت من الأردن، مروراً بالعراق، كانت هي المكان الوحيد، الذي كنت آكل فيه، وأشرب العصير، والماء البارد، دون أن يطاردني الذباب ليأكل معي، ومنها كنت أتصل بالعالم الخارجي، لأطمئن الأهل والأصدقاء عني، وما أن انتهيت من هذا الحلم، حتى رأيت القوم مشغولين، فسألت نفسي بنفسي: فيم ينشغل القوم يا ترى؟.

خطر في بالي لأول وهلة، أنهم يحلون الإشكال اللغوي الأزلي بين الكوفيين والبصريين، بعد أن حققوا الإنتصار العظيم على أرض الكويت، أو أنهم يدرسون خطة، لسحب مياه شط العرب، وتزويد الفرع «الكويت» من الأصل «العراق»، بعد أن رأوا بأم أعينهم، أن الفرع تنقصه مياه الأصل، وقد سرحت في خيالي أكثر، ونظرت أمامي، فلم أجد غير مئذنة المسجد الشامخة، لأركز نظري عليها، للتغلب على دقائق الإنتظار، وإذا بالمئذنة تهوي على الأرض، بطولها وعرضها، وسقف مسجدها يلامس سطح الأرض، ويصاحبه صوت انفجار ضخم، وتظهر سحابة من الغبار الكثيف، تلف المنطقة كلها.
فقلت في نفسي: يا للهول، أوصل الأعداء إلى هنا؟ لكن الأعداء حسب معلوماتي، يفجرون (مفاعلا نووياً)، ولا يفجرون مسجداً، إذن فقد عاد (الحجاج) ثانية،لكنه هذه المرة، لم يُعلّق جثة على أسوار الكعبة، كما فعل في الماضي، ويركع بعدها لله تعالى، بل أركع المسجد والمئذنة، هذه المرة له ، كي تصبح سابقة في التاريخ الحديث، والغريب في الموضوع، أن العراقيين بعدها، قاموا بتحديث العلم العراقي، وأدخلوا عليه، عبارة (الله أكبر) مرتين، مرة لهدم المسجد، والأخرى لهدم المئذنة، دون أن يراهم أحد، ومما زاد الطين بلة، أن بعض المسلمين في أرض الحشد والرباط، وأكناف بيت المقدس، كانوا قد شاهدوا صورة هذا الحجاج على وجه القمر في تلك الليلة.
