- مقدمة
- عمار يا كويت
- أعـزّ مـا أمـلـك
- وضاقت عمان بسكانها
- امرأة أتعبها كلام الناس
- لا تقطعوا الإحسان بينكم
- هل يجوز للإنسان أن يكذب؟
- من يقتني اللادا سيبيع أولاده
- تأكل الحُرّة مكياجها ولا تتسوّل
- الحسد للأقارب والغيرة للجيران
- كيف اصطادني موظف في مكتب البريد؟
- صديقي غيّر مسار حياتي في آخر لحظة
- كيف اصطادني موظف في الدفاع المدني؟
- أعطيته ليشتري غنماً فاشترى خرطوشاً للصّيْد
- العرض الإسلامي الذي قبلت به ورفضه الصبي
- رموا القمامة من الشبابيك وأنا من دفع الغرامة
مشاهد فلسطينية
عمار يا كويت

بعد وصولي مباشرة إلى مدينة عمان قادماً من دولة الكويت بعد حرب الخليج سنة 1991 بدأت على الفور أبحث عن سكن (أي سكن) لي ولأسرتي في مدينة عمان الكبرى فلم أجد وتنازلت وبدأت أبحث عن سكن في ضواحيها فلم أجد وتنازلت أكثر وبدأن أبحث عن سكن في مدينة الرصيفة فلم أجد وتنازلت أكثر وأكثر وبدأت أبحث عن سكن في مدينة الزرقاء فلم أجد أيضاً عندها ضاقت بي الأرض بما رحبت وأصبحت أعيش في حيرة من أمري سوف لن تنتهي إلا إذا وجدت السكن.

وفي أحد هذه الأيام التي كنت أبحث فيها عن سكن والتي لا يمكن أن أنساها ولا يمكن أن تنمحي من ذاكرتي قررت أن أشرب شيئاً بارداً لعله يخفف عني التعب والإرهاق الناتج من البحث عن سكن فذهبت إلى أحد الدكاكين لا على التعيين التي مررت بها وهناك إشتريت منه شيئاً بارداً وجلست معه وسألته عن سكن فقال:يا ريت اطلب عروساً مني أسهل من أن تطلب سكناً في هذه الأيام.

وفي هذه الأثناء مر رجل من باب الدكان الذي كنت أجلس مع صاحبه في مدخله فنادى عليه صاحب الدكان فحضر على الفور وإذا به شخص من معارفي فهو من أبناء بلدتنا المقيمين بمدينة الزرقاء لكنني لم ألتق به من سنين طويلة وبعد أن تعارفنا جلس معي وشرّبته مثل ما كنت أشرب وتحدثنا في الماضي والحاضر والمستقبل ونسيت أن أطلب منه مساعدتي في الحصول على سكن.

لكن صاحب الدكان لم ينس فقال له:إن الأخ الذي تراه بجانبك يبحث عن سكن فنظر بلدياتي إليّ وقال:أمعك فلوس؟فقلت له:نعم قال:أريد منك 500ديناراً فوافقت في الحال وقال:موعدنا الساعة الرابعة من هذا اليوم وفي الحال ذهب بلدياتي لشاب مصري الجنسية يعرفه كان ينوي السفر إلى مصر آخر الشهر نهائياً وأعطاه شيئاً مما أخذه مني وأقنعه بترك الشقة الآن وليس في آخر الشهر واقتنع هذا الرجل وأخلى له الشقة.

عند الساعة الرابعة ذهبت معه لرؤية الشقة فأدخلني في عمارة لها أول وليس لها آخر وتحوي ما هبّ ودبّ من البشر أما الشقة فكانت كزريبة أغنام لم أصدق أنه كان يسكنها بشر لكنها تبقى شقة مبنية ليست كسكن القاضي الشرعي الذي طلب مني أجرة سنتين مقدماً ليبني لي سكناً في خرابة يمتلكها ومع هذا فهي تحتاج إلى صيانة شاملة وعلى الرغم من ذلك وافقت في الحال ودفعت له المبلغ الذي يريد ولم يكتف بلدياتي بذلك بل عرض عليّ تنظيفها وصيانتها وصبغها وأنا في العمل مقابل 200 ديناراً أخرى فوافقت بدون تردد لا بل شكرته على ذلك.

وحضرت في اليوم التالي بعد دوامي لأرى العمل وأتابعه بنفسي وإذا به قد أنهى عمله فيها ويطلب مني المبلغ الذي اتفقنا عليه وعندما فتحت الشقة وإذا به قد اشترى سطلاً من الدهان وقام بسكبه على جدرانها بنفسه وقال لي:ها هي شقتك قد أصبحت جاهزة للسكن وأخذ نصيبه وانصرف وأصبح كلما التقينا في مكان عام يستعرض بطولاته أمام الموجودين بأنه استطاع تأمين سكن لي بعد أن عجز الآخرون عن ذلك وأنا ساكت لا أتكلم والناس الذين من حولي لا يعلمون هذه التفاصيل أما أنا فبغض النظر عن ما دفعت إلا أنه أصبح عندي سكناً وعملاً.

في اليوم التالي أحضرت كهربائياً لتبديل اللمبات إلى نيونات واحتاج عمله إلى كرسي ليقف عليه فطلبت كرسياً من الجار الأقرب لي لكنه رفض فخرج الكهربائي وأحضر قطعة خشبية من الشارع وقف عليها وركب النيونات لكنه أثناء العمل عطش فطلب مني ماءاً بارداً فطلبت له الماء من الجار الآخر فلم يعطيني الماء فقلت للكهربائي:إما أن تبقى عطشاناً أو أن تشرب من الحنفية وبعد أن أنهى عمله قال:الله يساعدك على هذه الجيرة.

وفي المساء ذهبت لبيت ابن عمي في حي معصوم وإذا بزوجتي تتصل من مدينة سلفيت على تلفون جيران إبن عمي الذي كنت قد أعطيتها رقمه للاتصال وقت الحاجة وعندما ذهبت كي أردّ على هذه المكالمة وإذا بصاحب التلفون يقف لي بالباب ويقول:هذه آخر مرة تستخدم فيه تلفوننا فقلت له:حاضر ولك مني أن لا أستخدم لا تلفونك ولا تلفون غيرك وكانت شركة الاتصالات الأردنية قد استحدثت خدمة التركيب السريع مقابل أن تدفع أربعة أضعاف المبلغ العادي الذي يريد أن ينتظر الدور أي عليّ أن أدفع 400 ديناراً ودفعتها وركبت في الشقة تلفون.

وبعد أن سكنا في الشقة وبعد أن دفعت 400 دينار أي أربعة أضعاف الرسوم العادية وركبت فيها تلفون لم نهدأ يوماً من الأيام من طلبات الجيران فهذا يريد سكراً ليشرب شايه وذاك يريد بصلة ليكمل بها طبخته والآخر يريد أن يتصل بالخارج وسيدفع لي عندما تأتي الفاتورة التي كانت تأت وقد لا تأت ومنهم من أعطى رقمي لأصدقائه كي أقوم بتبليغهم أقوالا يتقولونها بين بعضهم البعض وجعلت من أولادي مراسلين لهم لكنني أفهمت أولادي هذا الموقف الذي وُضعنا به ولخصته لهم بقولي:عليكم أن لا تحتاجوا الناس ولكن عليكم مساعدة من يحتاجكم.

هذا كل ما قدمه لي بلدياتي الذي يُقبلني كلما تقابلنا فقد استغل حاجتي للسكن وأخذ مني 700 ديناراً سمسرة مقابل أن يدلني على سكن فتذكرت في الحال من كنت أستأجر منه شقتي في دولة الكويت عندما حضر بمحض إرادته وقال:أنت يا ولدي الآن عاطل عن العمل ولا دخل عندك وعليه يكفيني منك أن تدفع لي أجرة شقتك 80 ديناراً بدلاً من 120 ديناراً وقارنته مع بلدياتي الذي إستغلني أبشع استغلال فقال لساني ومعه قلبي:عمار يا كويت وبعد شهر واحد وإذا بالسمسار قادم ليجمع أهل البلد في رابطة كي تسهل عليه عملية السمسرة.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
رموا القمامة من الشبابيك وأنا من دفع الغرامة
المكان : الزرقاء
الزمان : 1994

بعد حرب الخليج ضاقت عمّان بسكانها واستفحلت فيها أزمة السكن فأجبرتُ على دفع خلوّ مقداره 500 دينار أردني في شقة لأسكن فيها ضمن عمارة مشهورة في عوجان بالزرقاء وهذه العمارة لمن لا يعرفها من عجائب الدنيا السبع بعد الاعتذار من مدينة البتراء الخالدة فشققها لا تعد ولا تحصى بأحجام متنوعة وأنواع وأوضاع مختلفة وبأسعار متفاوتة.

فالشقق التي تطل على الشارع الرئيس منها له سعر إيجار يختلف عن سعر الشقق التي تطل على سكة الحديد وتحت الأرض المقامة عليها هذه العمارة مصانع ومخازن وفوق الأرض متاجر ومطاعم وبنك ومسجد وفرع للمؤسسة العسكرية ومكتب للبريد وفوق كل هذا شقق سكنية تقع في صفين متقابلين يفصلهما ممر فيه فتحات للتهوية وفي هذه العمارة أيضاً نصف دواوين قرى الضفة الغربية وسكانها من جميع الجنسيات والثقافات المختلفة فتخيل معي عزيزي القارئ عدد الناس الذين يدخلون ويخرجون ويسكنون في هذه البناية.

كان نصيبي منها شقة في الدور الثاني تطل على سكة الحديد وليس على الشارع العام ومن يسكن على الشارع الرئيس يتقيد بتعليمات البلدية في وضع مخلفاته في كيس ويقوم بتوصيله إلى حاوية الزبالة مكرهاً أما من يسكن في الشقق التي تطل على سكة الحديد فلا حسيب ولا رقيب عليهم حتى أنهم لا يشترون أكياساً للقمامة ولا يستخدمونها فهم يقومون برمي مخلفاتهم من الشبابيك توفيراً لثمن الأكياس أولاً وللجهد ثانياً وكأنهم يعتقدون بأن المهم أن تخرج القمامة من بيوتهم أما أين تذهب فلا يهمهم ذلك.

حضر مراقب النظافة في بلدية الزرقاء في أحد الأيام فوجد مكرهة صحية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى خلف هذه البناية فأنذر ونبّه كل من يسكن جهة سكة الحديد بعدم رمي فضلاتهم من الشبابيك والبلاكين لكن أحداً منهم لن يبالي بهذا الإنذار والتنبيه واستمروا في عملهم هذا دون حياء أو خجل مما جعل مراقب النظافة في البلدية يشكو أمر سكان هذه البناية للمحافظ الذي أمره بمخالفة كل من يسكن جهة السكة وأنا منهم.

ما أمر به المحافظ هو عقاب جماعي بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى وهذا العقاب الجماعي كنا قد ورثناه عن الوالي التركي والحاكم الانجليزي من بعده والحاكم الإسرائيلي في هذه الأيام فالعقاب الجماعي سهل على الحاكم صعب على السكان أما نحن فقد توسعنا كثيراً في استخدامه فاستخدمناه في مدارسنا عندما أخذ أساتذتنا ومدرائنا يستخدمون مثل هذا النوع من العقاب الجماعي في مدارسهم إلى أن أصبح هذا النوع من العقاب مألوفاً لدينا ولا يحتج عليه أحد مع أنه محرّم دينياً ودولياً.

وفي أحد الأيام ضُرب جرس الباب عندي فقمت على الفور بفتح الباب وإذا بمراقب النظافة في البلدية يطلب مني التوقيع على مخالفة تقول:أنا فلان الفلاني مراقب النظافة في بلدية الزرقاء رأيت المدعو جميل عبود بأم عيني يرمي بالقمامة من شباك منزله وعليه يُغرّم بعشرة دنانير على فعلته تلك!فقلت له بشيء من الاستهجان والغضب: هل رأيتني وأنا أرمي القمامة من الشبابيك؟قال:لا.

قلت له:وكيف تقبل على نفسك أن تكون شاهد زور في قضية ملفقة؟ عندها فقدت أعصابي ولم أستطع أن أتمالك نفسي فقمت بفتح الباب على مصراعيه أمامه قائلاً له:هل تتوقع أن من يسكن في مثل هذا البيت الذي تراه أمامك يمكن أن يرمي زبالته من الشبابيك؟أنظر إلى عدد سلات الزبالة فهي موجودة في كل مكان من بيتنا قال:والله أنني مقتنع مما تقول لكنني أنفذ أمر المحافظ وأنا عبد مأمور ليس إلا وإذا لم توقع وتدفع الغرامة ستذهب إلى المحكمة فقلت له:وليكن لكنني لن أوقع على عمل لم أعمله ولن أعمله وذهب الرجل وهو يكلم نفسه: أنت حر.
وبعد فترة من الزمن وإذا بموظف المحكمة قادم ومعه بلاغ يحدد فيه مكان وزمان الجلسة كبر الأمر عندي واعتبرتها إهانة لي كمعلم قبل أن تكون غرامة مالية أدفعها بغير وجه حق وأخذت أتسائل بيني وبين نفسي:ما هو موقفي أمام القاضي الذي سأقف أمامه غداً لو كان أحد طلابي السابقين؟ما هو موقفي غداً عندما يسألني أحد طلابي الذين أدرسهم الآن عن سبب غيابي عنهم بالأمس؟هل سأقول له الحقيقة أم أكذب عليهم؟وإذا علم أحدهم بأنني أرمي القمامة من الشبابيك ماذا سيقول عني؟ وماذا سأقول له غداً.

عرضت أمري على من هم حولي من مدرسين وأصدقاء كي أسترشد بآرائهم فالغربة كانت قد أنستني الكثير من مفاهيم وقيم أصبحت سائدة في مجتمعنا وأنا لا أعلمها فأجمعوا جميعاً دون استثناء على أننا كمجتمع تآلفنا مع هذا النوع من العقاب الجماعي وأصبحنا نطلبه نحن من الحاكم إذا نسيه يوماً وأصبح الموت عندنا مع الجماعة رحمة أما ما نتلوه يومياً في صلواتنا وما علمه لنا ديننا عندما قال تعالى:ولا تز وازرة وزر أخرى فنقرأه لتصحّ به صلواتنا فقط دون أن نعمل به!وتآلفنا أيضاً مع الظلم والظالمين ولم يعد في حياتنا أن الظلم ظلمات وكل ما نعمله للظالمين الدعاء عليهم بعد كل صلاة بعدها نظهر أنفسنا لأنفسنا بأننا على الصراط المستقيم سائرون.

وقال أحد زملائي:إنك يا صديقي قد ضخمت الموضوع أكثر من اللزوم والأمر عادياً جداً وأبسط مما تتصور اذهب إلى المحكمة في موعدها وعندما يسألك القاضي:هل أنت مذنب؟فقل له:نعم سيدي وتدفع العشرة دنانير وتنتهي المشكلة أما إذا قلت غير مذنب فستدخل في متاهات المحاكم وستدفع هذه الغرامة مضاعفة أولاً وأخيراً فهل أنت جديد على مفاهيم مجتمعنا وكأنك نسيتها بعد غيابك الطويل عن بلدك؟وهذا أول عربوناً ستدفعه ثمناً للغربة.

أما خوفك على موقفك أمام طلابك فلا مبرر له فقد تعوّد مجتمعنا على إهانة المدرس وجرح كرامته حتى أن المدرس نفسه اعتاد هو الآخر على هذه النظرة الدونية له من قبل المجتمع ولم يعد عنده من كرامة ليدافع عنها فما لجرح بميت إيلام إنك تعيش اليوم بفكر الأمس عندما غادرت بلدك لقد اختلف الكثير مما كان سائداً في تلك الأيام فالمعلم اليوم هو الذي أصبح يخاف من تلميذه بعد أن عمل جرسوناً في المطاعم بعد دوامه في المدرسة ليقدم الأكل إلى الطالب وأهله فيشير الولد إليه ويقول لوالده:بابا هذا أستاذي في المدرسة فيخرج الأب من جيبه بعض الدراهم ويعطيه مقابل تنظيف الطاولة له ولولده وليس لأنه يعلم ابنه.

لم أقتنع في كل ما قاله لي زملائي لكنني في الحال تذكرت ما كانت قالته لي أمي رحمها الله يوماً وأنا طفل صغير في السن:يا ولدي خذ عني إذا جن الناس فلن ينفعك عقلك وذهبت في الحال إلى مبنى محكمة بلدية الزرقاء وكان هذا اليوم مشهود في حياتي فأنا لم أر قاضياً حتى الآن وعندما رأيته سألني دون مقدمات:هل أنت مذنب؟فقلت له:نعم سيدي فقال:إذهب إلى الصندوق وادفع عشرة دنانير غرامة ودفعتها فوراً.

حزنت على هذه الدنانير العشرة أكثر مما حزنت على كل ما خسرته في حرب الخليج من أموال منقولة وغير منقولة لكنني حمدت الله أنني مستأجر لهذا البيت ولست مالكاً له وعلى إثر هذه الحادثة قررت الرحيل فوراً من الزرقاء كلها وفي اليوم التالي ذهبت ومعي زوجتي وأولادي إلى مدينة عمان واخترنا شقة جديدة واشتريتها وسكنت فيها عملاً بقوله تعالى مخاطباً من يُظلم في مكان ولا يستطيع الرد على من ظلمه:ألم تكن أرض الله واسعة.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
أعـزّ مـا أمـلـك
المكان: الزرقاء
الزمان: 1992

مصائب قوم عند قوم فوائد هكذا كان يقال قديماً ولا يزال يقال في الحاضر وما سيقال في المستقبل لأن هذا المثل صالحاً لكل زمان ومكان وبالذات كان قد إنطبق على الفلسطينيين العائدين من الكويت بعد حرب الخليج فحرب الخليج كانت سبباً في حصول البعض منهم على غنائم وفي حصول كوارث مالية لبعضهم الآخر!فكان قدوم مئات الألوف من المواطنين الأردنيين المقيمين في الكويت إلى بلدهم الأصلي الأردن قد ولد ضغطاً على مؤسسات الدولة وأوجد حالة من الإرباك أحياناً.

فمثلاً إذا أردت الحصول على رخصة قيادة سيارة ما عليك إلا أن تسجل في إحدى مكاتب تدريب السواقين وتدفع لهم مبلغاً معيّناً من المال مقابل تدريبك نظرياً وعملياً على مهارات القيادة ثم تدخل بعدها امتحاناً نظرياً وآخر عملياً كي تُعطى رخصة القيادة لكن من قدموا من الكويت يحملون رُخصاً ومُدرّبون نظرياً وعملياً على قيادة السيارات بأنواعها المختلفة وإذا استمرت هذه الإجراءات والامتحانات كما هي عليه فيسببون الإرباك لأجهزة السير.
لهذا فقد أصدر مدير سلطة الترخيص آنذاك قانوناً يعغي كل من يحمل رخصة القيادة الكويتية أو العراقية من الفحص وسمح بتبديل رخصهم فوراً كان ذلك في الربع الأول من عام 1992 وكان يوم ثلاثاء وكان يوم الخميس عطلة رسمية للمدارس وعليه فقد أجلت تبديل رخصتي إلى يوم الخميس وكان هذا القرار قد أثلج صدور القادمين من الكويت ورفع من معنوياتهم.

في صباح يوم الخميس الموعود جهّزت أوراقي الثبوتية وذهبت إلى مديرية الترخيص في مدينة الزرقاء وإذا بشرطي يقف على باب إدارة السير على غير العادة وما أن اقتربت منه حتى سألني الشرطي:ماذا تريد؟قلت له:أريد تبديل رخصة القيادة الكويتية فقال:ممنوع قلت:ألم تسمع بقرار مدير سلطة الترخيص؟قال:بلى ولكن كلامك صحيح بالأمس وليس اليوم!فقد صدر قرار آخر هذا اليوم يلغي قرار الأمس قلت:أصحيح ما تقول به؟قال:سأسمح لك بالدخول كي تتأكد بنفسك.

ودخلت مبنى سلطة الترخيص وإذا بالناس أمثالي يتجمهرون أمام غرفة المدير وعندما اقتربت أكثر من أحدهم وسألته:لماذا كل هذا التجمع؟فقال:تصور يا رجل أنني كنت أقف بالدور من أجل تغيير رخصتي الكويتية إلى أردنية وعندما جاء دوري أغلق الموظف الشباك في وجهي بعد أن قال لي:إن المدير أوقف القرار ونحن الآن ننتظر أمام غرفة هذا المدير لنرى حلاً لمشكلتنا.

وفي هذه الأثناء سمعت رجلاً آخر يقف بجانبي يقول لصاحبه:إن القرار في ترخيص ماركا لا زال ساري المفعول وعلينا أن نذهب إلى هناك بسرعة تطفلت عليه وعلى صاحبه وقلت لهما:هيا نستأجر تكسي ثلاثتنا ونذهب إلى ماركا بسرعة قبل فوات الآوان بدلاً من أن نستخدم المواصلات العامة فهي بحاجة إلى وقت وافق الرجل في الحال وقال:هيا بنا نذهب إلى هناك وبسرعة.

خرجنا ثلاثتنا مسرعين من المبنى وقد انتصف النهار وقمنا باستدعاء تكسي وركبنا معاً وطلبنا من السائق توصيلنا إلى ترخيص ماركا بسرعة قبل انتهاء الدوام مقابل ما يريد من أجرة وفي الطريق سألت السائق:هل سمعت بقانون تبديل الرخص؟قال:نعم وهل سمعت عن إلغائه؟قال:لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً فأنا يا رجل كل الذين نقلتهم بسيارتي هذا اليوم كانوا على ترخيص ماركا من أجل تبديل رخصهم الكويتية فهي بالنسبة لهم تعتبر فرصة لا تعوض والمدير الذي أصدر القرار هو نفسه لم يتغير من الأمس إلى اليوم!أيعقل أن يناقض الإنسان نفسه؟.

وأخيراً وصلت إلى مكتب ترخيص ماركا وبسرعة الريح قطعت المسافة الطويلة من الشارع الرئيس إلى مبنى الترخيص وبعد أن وصلت الشباك وجدت طابوراً من المراجعين وما أن جاءني الدور وقدمت معاملتي للموظف قام بالاعتذار مني وقال:حظك سئ يا رجل لقد وصلنا الآن قرار يلغي القرار الأول.
أما لماذا حصل كل هذا الإرباك؟لأن صدور القرار الأول كان للمصلحة العامة وتوفيراً للوقت والمال والجهد على الناس وعلى الموظفين أنفسهم لكنه أضرّ بمصالح شريحة صغيرة من الناس بعضهم متنفذون هم أصحاب مكاتب تدريب السواقين فذهب المتنفذون منهم للمدير وأقنعوه بأنه كان سبباً في قطع أرزاقهم على الرغم أننا نتغنى كل ساعة بأن الرزق من عند الله وعليه أن يخاف الله ويسحب قراره هذا فسحب القرار وبدأ التخبط والإرباك.
وفي هذه الأثناء وصل هذا التخبط في اتخاذ القرارات إلى صاحب القرار الأعلى فقام بتسوية الموضوع على الفور ولم أجرؤ هذه المرة على التأجيل إلى يوم عطلة الخميس فقد استأذنت من المدرسة يوم السبت واستبدلت رخصتي الحبيبة وأصبحت كلما أراها أتذكر ذلك الموقف وأقول لها عندما يطلبها شرطي المرور:أنت أعز ما أملك.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
من يقتني اللادا سيبيع أولاده
المكان : الزرقاء
الزمان : 1992

بعد حرب الخليج مباشرة ارتفعت أسعار السيارات وانتعشت وكالاتها في الأردن ومن ضمنها وكالة سيارات لادا الروسية لأن سياراتها هي الأرخص في ذلك الوقت فزاد الطلب عليها وأصبح لزاماً على كل من يريد شراء سيارة أن يدفع ثمنها مقدماً وينتظر دوره عدة شهور أما سيارة اللادا فهي سيارة قوية قامت على أكتافها دولة عظمى وفوق ذلك جُرّبت في الخليج العربي ونجحت لا بل نافست غيرها من السيارات الأخرى على الرغم من انخفاض سعرها.

لكن وكيلها في الأردن آنذاك كان قد استغل حرب الخليج ورفع سعرها وطلب من المصنع أن يرسل له السيارة عارية ليقوم هو باستبدال ما يستطيع من قطعها الأصلية بقطع صينية تجارية فكله عند العرب صابون ولم يكتف بذلك بل وظف في شركته من هم بحاجة إلى العمل ممن قدموا من الكويت واستغل كثرتهم وخفض من رواتبهم بدلا من أن يزيدها وأصبح الموظفون غير راضين عن عملهم فيعملون أقل الأشياء المطلوبة منهم وبما أنني لا أعرف في السيارة إلا قيادتها فعليّ أن أشتري سيارة جديدة كي أرتاح من همّها وكانت اللادا أرخص السيارات الجديدة في ذلك الوقت فقمتُ بشرائها.

كنت قد درست في مدينة حلب وما تمتاز به حلب عن غيرها من المدن السورية وجود جالية أرمنية فيها وبعد أن تعاملتُ معهم وجدتهم يختلفون عنا بالصدق والوضوح في التعامل وبإتقان العمل بصمت دون ثرثرة على الرغم أن سعرهم أعلى من غيرهم لكنه محدود فلا مجال للمفاصلة عندهم فهم يُريحون ويرتاحون وفوق ذلك مواعيدهم دقيقة هذا هو الانطباع الذي خرجت به من مدينة حلب عن الأرمن.

أما سيارتي الجديدة فقد رسبت في أول فحص فني لها في دائرة السير وبدأت تتعطل فعرضت أمري على مدير المدرسة ومساعده حيث كان الأول يقتني سيارة لادا والثاني يقتني سيارة فيات كي أستفيد من خبرتهم في هذا المجال فقالوا لي: ما لك إلا آرتين نحن نتعامل معه من عشرات السنين وقد أثبت صدقه ومهارته ونصحوني أن أذهب إليه وأعرض عليه سيارتي ليشخص ما بها من عطل ثم يقوم بإصلاحه وبغير ذلك ستبقى المشكلة عندك موجودة لا بل ستبقى تتنقل من ميكانيكي إلى آخر ومدحوه لي للمرة الثانية فقلت لهم: بما أنه أرمنيّ حتماً سيكون جيداً لأنني كنت قد جربت الأرمن في مدينة حلب.

ذهبت إليه وعرّفته بنفسي وقلت له: بعثني إليك فلان وفلان فقال: لكن أنا مختص بالفيات واللادا هي نسخة عن الفيات فقطع غيارهما واحدة وبعد أن قام بفحص السيارة قال: سيارتك بحاجة إلى تنزيل ماتورها وإعادة تركيبه ثانية وأثناء هذه العملية ستظهر لنا القطعة المعيبة ونستبدلها لهذا لا أستطيع أن أعطيك سعراً محدّداً غير أجرتي فهي ثابتة وقام بضرب المبلغ في ثلاثة فقلت في نفسي: ليست الفلوس مشكلة أمام إتقان العمل ووافقت بعد أن تعهد لي بأن ينهي كل شئ خلال أسبوع وتركت له السيارة أمام محله وودعته مطمئناً.

وبدأت أنتظر موعده هذا على أحرّ من الجمر فقد تعطل الكثير من أعمالي في غياب السيارة وأصبحت أستعمل المواصلات التي لا تستطيع أن تؤدي جميع مصالحي وما أن حان الموعد المحدد بيننا حتى ذهبت إليه مُسرعاً وإذا بالسيارة كما تركتها لم يلمسها بيديه وعندما رآني أعطاني موعداً آخر مُتذرعاً بحجج واهية وبدأت أنتظر الموعد الآخر وعندما حان هذا الموعد ذهبت فوجدت السيارة على حالها أيضاً فقلت له: هل أرمن الأردن غير أرمن حلب؟ فقال: لا والله ولكنك لم تقل لي الحمد لله على سلامتك فقلت له: خيراً إن شاء الله فقال: بالأمس تدهورت شاحنة كبيرة وسقطت على محلي وكسرت باب المحل واستقرت بداخله فلو كانت سيارتك بالداخل لتحطمت وعليك أن تحمد الله على ذلك ولا تغضب فالله يُحبك أكثر مني.

وفعلا رأيت آثار الشاحنة والأضرار التي خلفتها في محله وعرفتُ عندئذ أنني وقعتُ في مصيدة فسيارتي عمرها أربع سنوات فقط فهل يُعقل أنها بحاجة إلى تنزيل ماتور؟ وتذكرتُ في الحال مثلاً شامياً لا أجرؤ أن أتلفظ بكلماته حرفياً لأنني أعارضه ولم أقتنع به لكنني في هذه الحالة قد بدأت أقتنع به فهم يقولون بما معناه: لا تشفق على المصاب كثيراً لأن الله يعلمه أكثر منك وقد عاقبه الله بما يستحق وذهبتُ في الموعد الثالث وإذا بالسيارة بين يديه ولم ينهيها فقلت له: لن أغادر هذا المكان إلا بها فانتهى منها الساعة التاسعة ليلا وعندها ركبت سيارتي وذهبت بها إلى البيت وفي الصباح حاولت تشغيلها فلم تشتغل لكنني عشقتها وشغلتها مراراً إلى أن أوصلتها له وقلت له: السيارة لا تعمل إلا بالدفش وعندما تشتغل ترتفع حرارتها إلى الخط الأحمر.

حاول آرتين إصلاحها فلم يستطع فعزى الأمر إلى عطل كهربائي ولبس ميكانيكي واستعان بجاره الكهربائي فاقترح هذا الكهربائي العبقري أن يركب لها مروحة إضافية خارجية مثل سيارات النقل الكبيرة ومن أين لنا بهذه المروحة العظيمة؟ قال: في الصباح نشتريها من محلات قطع الغيار فقلت له: والآن ما هو الحل؟ فتفتقت عبقريته في تلك اللحظة وأحضر لفة من الأسلاك وبدأ يربطها ويخرجها ويدخلها بين أجزاء الماتور إلى أن امتلأ الماتور أسلاكاً كحل مؤقت لها وذهبت بها إلى البيت بعد أن تأكدت أني وقعت في مصيدة ثانية للمرة الثانية ولكن هذه المرة مع جاره الكهربائي.

في الصباح أخذتها إلى كهربائي آخر وعندما سألني ما بها قلت له: ترتفع حرارتها لو اشتغلت فقال: افتح غطاء الماتور وفتحته فضحك وقال: من هو هذا العبقري الذي عدّل على تصميم الوكالة؟ وخلال دقائق خلع كل الأسلاك التي ركبها من سبقه ورماها وأعاد ماتور السيارة كما كان أولاً وأعاد لي السيارة أحس من الأول وسألته عن الأجرة فقال: أنا في الحقيقة لم أعمل في سيارتك شيئاً يستحق أجرة لكنني سآخذ منك دينار واحد عقاباً لك لأنك سمحت للجهلة أن يلعبون في سيارتك مرة أخرى إذا تعطلت سيارتك احضرها لي أو اتصل في تلفونيا سآتيك في الحال.

وبهذا يكون قد اكتسب ثقتي به وأصبح مسؤولاً عن سيارتي في كل صغيرة وكبيرة وبعد أن علم بطيبتي وجهلي في أمور السيارات فقد بدأ يبتزني واستمرت هذه العملية ثلاث سنوات وهو يتقاضى مني راتباً شبه شهرياً إلى أن اكتشفته بعد هذه الثقة العمياء التي أعطيته إياها ولم أجد حلاً غير بيع هذه السيارة والتخلص منها بعد أن صادقت على المثل الذي يقول: من يقتني اللادا سيبيع أولاده وقلت لمدير المدرسة ومساعده: أنا لم أعد أثق بتقاريركم السنوية التي تكتبوها عن مدرسيكم إذا كان هذا الميكانيكي قد نال إعجابكم طيلة هذه السنين.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
لا تقطعوا الإحسان بينكم

شيخ كبير في السن يرتدي زيّاً كزيّ والدي وقفت له بسيارتي في حيّ ماركا الشمالية دون أن يطلب مني ذلك فركب بجانبي ومظاهر التعب بادية على وجهه من طول الإنتظار وعلى الفور تذكرت صمت والدي عندما كان يحترمه الناس فقد كان رحمه الله يصمت ولا يُتقن مجاملتهم لكن مظاهر السرور كانت تبدو على مُحيّاه وبعد أن ركب معي وانطلقنا أشار لنا ثلاثة رجال كانوا يقفون في بداية مخيم شنلر فوقفت لهم وركبوا معنا فازداد الشيخ سعادة.
وعندما وصلنا مدينة الرصيفة وإذا بأحدهم يقول لي: قف عندك بلهجة الأمر فوقفت له ونزل من السيارة دون أن يقول لي كلمة شكراً وما أن تحركت السيارة عدة أمتار أخرى وإذا بآخر يقول: قف عندك وقالها في مكان لا أستطيع فيه الوقوف ولا التوقف أدار الشيخ وجهه نحو هذا الراكب وقال له: لماذا لم تنزل مع صاحبك قبل دقائق؟وتمشي هذه الأمتار القليلة بدل أن تحرج الأخ السائق الذي شفق عليك وأركبك معه مجاناً ثم كيف تتكلم معه بهذه اللهجة؟ وهل تعتقد أن هذا الأخ سيبقى يساعد الناس بعد أن تعاملوه أنت وأمثالك بهذه الطريقة؟.

سكت الراكب ونزل من السيارة دون أن يُعر كلام الشيخ أيّ انتباه ودون أن يقول لي شكراً وبعد أن سرت أمتار قليلة وإذا بالراكب الثالث يطلب مني الوقوف بنفس الطريقة التي تكلم بها من سبقاه فوقفت له ونزل بدون أن ينطق بأية كلمة بقي الشيخ وحده معي في السيارة فوجدها فرصة سانحة له ليقول ما بنفسه عن مثل هؤلاء الناس فقال: أنا أريد أن أعتذر لك عن مثل هؤلاء الناس يا ولدي فهم جيل قد نشأ لوحده ولم يُربيه أحد فهؤلاء وأمثالهم هم من سيقطعون الإحسان من بين الناس فأدهشني ما سمعته من هذا الشيخ وطلبت منه المزيد من التوضيح فقال:

يُروى عن رجل لئيم وجد نفسه وحيداً في صحراء وبعد أن رأى فارساً من على بعد تمارض وارتمى أرضاً أمامه فنزل الفارس عن ظهر فرسه وأركبه بدلا منه وعندما اعتلى هذا الرجل اللئيم ظهر الفرس شد لجامها ونهر عليها كي تسرع به أكثر بعد أن ترك صاحبها على الأرض مكانه فقال له صاحب الفرس: قف يا رجل واسمعني جيداً أنا لست آسفاً على فرسي فقط ولكنني آسف بل غاضب على ما فعلت لأن الناس سيتداولون فيما بينهم ما كنت قد فعلته معي من بعدك فيقطعوا الإحسان فيما بينهم.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
كلام الناس

لا بد لي أن أذكر القارئ للمرة الثانية بأزمة المواصلات الحادة التي كانت قد خلقتها حرب الخليج في مدينة عمان وزاد الطين بلة أن كثيراً من الحافلات العامة والتكسيات العمومية كانت قد ذهبت مع من ذهبوا لآداء فريضة العمرة في رمضان في تلك السنة فاشتدت الأزمة أكثر لا بل وصلت إلى ذروتها وأصبح العثور على تكسي أصفر من سابع المستحيلات لا سيما قبيل المغرب في رمضان.

وفي أحد أيام رمضان سنة 1992 أشارت لي امرأة وطلبت مني الوقوف عند البوابة رقم 4 للمدينة الرياضية في عمان وكانت معها طفلتها الصغيرة وأكياس كثيرة بداخلها أغراض متنوعة بينما كنت مُتجهاً من مدينة عمان إلى مدينة الزرقاء وكانت الشمس تودع السماء فوقفت لها فقالت: هل يمكن أن تأخذني في طريقك يا أخي إلى طبربور لأنني تأخرت عن تحضير وجبة الفطور لزوجي وأولادي ولا أشك في أنك تعلم أن المواصلات تزداد صعوبة كلما اقتربنا من آذان المغرب؟.

قلت لها: تفضلي وركبت معي هي وطفلتها وأكياسها وانطلقنا وعندما وصلنا إلى المكان الذي تريده في طبربور قالت: عندك أنزلني لو سمحت يا أخي قلت لها: دعيني أوصلك إلى بيتك فتكسبين بذلك مزيداً من الوقت وأريحك من حمل أغراضك وطفلتك الصغيرة التي لم تقو على المشي بعد فانتفضت وقالت: وماذا سيقول الناس عني عندما يشاهدونني وأنا أنزل من سيارة غريبة في مثل هذا الوقت؟ فالناس لا ترحم يا أخي الكريم أشكرك أولاً وثانياً أنزلني هنا لو سمحت وبارك الله فيك وعندما أنزلتها من سيارتي حملت أغراضها في يد وأمسكت بطفلتها باليد الأخرى وذهبت إلى بيتها مشياً على الأقدام وقلبي معها وعقلي يفكر في كيفية التخلص من هذه العقدة الأزلية كلام الناس.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
تأكل الحُرّة مكياجها ولا تتسوّل

في أحد أيام عام ١٩٩٢ عندما كنت أسكن في مدينة الزرقاء وأعمل في مدينة عمان ضاقت عمان بسكانها بعد حرب الخليج وأصبحت وسائل المواصلات شحيحة واصبح الوصول إلى المكان الذي يقصده الشخص في غاية الصعوبة وأصبح لزاماً على كل شخص أن يدبر نفسه بأية طريقة كانت للوصول إلى وجهته التي يقصدها وبينما كنت خارجاً من مدينة الزرقاء متجهاً إلى مدينة عمان عن طريق الرصيفة وإذا بامرأة تطلب مني الوقوف فوقفت فقالت: هل تأخذني في طريقك إلى عمان؟ فقلت لها: على الرحب والسعة تفضلي وركبت بجانبي دون أن أعرف من تكون هذه المرأة ولا أريد أن أعرف لأن عملي كان خالصاً لوجه الله بغض النظر عمن يركب بجانبي كل ما أعرفه أنها مضطرة للركوب معي لتوفير الأجرة لأشياء أهمّ.

في الطريق عرضت عليّ هذه المرأة مشكلتها فقالت: إن زوجي كان قد مرض وأصبح مُقعداً ولا يستطيع أن يعمل وأنا وزوجي الآن نعيش على ما يدفعه لنا المحسنون أمثالك فهل لك أن تدفع لي شيئاً كي أشتري لزوجي طبخة اليوم؟ تعاطفت مع هذه المرأة ولكنني لم أكن أحمل فلوساً تذكر كي أعطيها فاعتذرت لها وقبلت هذه المرأة إعتذاري ولكنها قالت: هذا رقم هاتفي إذا رغبت في مساعدتي مستقبلاً فاندهشت لما سمعت وبدأت أحدّث نفسي بنفسي وأقول: أنا لم يكن عندي هاتفاً في بيتي في ذلك الوقت ونادراً من كان يمتلك هاتفاً في تلك الأيام فالأوْلى لهذه المرأة أن تقطع هاتفها أولاً وما تدفعه من رسوم ومكالمات شهرية سيشتري لها ولزوجها طبق اليوم على رأيها بدلاً من أن تمدّ يدها للناس.

لم أستطع أن أكتم عنها ما حدثتتي به نفسي فقلت لها: أليس من الأولى أن تقطعي خط التلفون من منزلك فترتاحي على الأقل من فواتيره الباهظة ومن مصروفه؟ فقالت: إن الهاتف الذي تعترض على وجوده في بيتي هو الذي يُطعمنا ويسقينا وهو أداة الاتصال الوحيدة بيني وبين الناس فلولاه لا أستطيع التكلم مع أحد فهو كالبقرة التي تأكل ولكنها تحلب ومن حليبها نصنع اللبن واللبنة والجبنة والزبدة جرى هذا الحوار بيننا ولم أشاهد وجهها احتراماً لها وعندما نزلت من سيارتي في ساحة رغدان لمحت وجهها وإذا به مطليّ بمكياج ثمنه يكفيها وزوجها الأكل لمدة أسبوع كامل.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
وضاقت عمان بسكانها
المكان: عمان ـ الزرقاء
الزمان: 1991 ـ 1996

بعد حرب الخليج مباشرة تدفق الآلاف من الفلسطينيين والأردنيين الذين كانوا يعملون ويقيمون في الكويت فضاقت عليهم عمّان بشوارعها وبيوتها ومدارسها وبسكانها ولم تعد شبكة المواصلات التي كان يستخدمها الناس في ذلك الوقت قادرة على استيعاب هذا العدد الهائل من السكان بعد هذه الزيادة السكانية الطارئة ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل جاء موسم الحج في تلك السنة وأخذ من باصاتها وسياراتها الشئ الكثير مما جعل الأمر يزداد صعوبة في التنقل.

أما أنا فكان باستطاعتي في ذلك الوقت شراء سيارة خاصّة كي أريح نفسي وأهلي من هذا العناء. لكنني آثرتُ التريّث قليلا كي تجرّب زوجتي وأولادي الحياة الجديدة ويتأقلمون معها فحياتنا اليوم في عمان ستكون غيرها في الكويت والتي كانت حياة سهلة لا معاناة فيها، فلم أذكر يوماً أننا استخدمنا أنا أو زوجتي أو أولادي المواصلات العامة فيها حتى أن أولادي لم يتعرفوا على الباص إلا في عمان فقد اندهشوا عندما ركبوا فيه لأول مرة بعد أن كانوا في الكويت يرونه ولا يستخدموه.

وفور عودتي من الكويت إلى الأردن بعد حرب الخليج كان قد استقبلني ابن عمي (أبو العبد) في منزله الواقع في حيّ معصوم بمدينة الزرقاء مشكوراً ولم يكتف بذلك بل أخذ يبحث معي عن سكن لكن هيهات أن تجد سكناً (أي سكن في مدينة الزرقاء في ذلك الوقت) في أي مكان في المدن الكبيرة ولكي تجعل مني زوجتي ضيفاً خفيف الظل على من استضافوني غادرت في الحال هي وأولادها إلى مدينة سلفيت في فلسطين حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.

وبعد أن وجدت عملاً في مدارس البتراء النموذجية في خلدا بمدينة عمان أصبح عليّ أن أذهب يومياً من حي معصوم بالزرقاء إلى منطقة خلدا في عمان مروراً بالساحة الهاشمية وبالعكس فكان لا بد لي من التواجد والانتظار على الشارع الرئيس في حيّ مـعـصـوم قبل الساعـة السادسة صـبـاحـاً كـي أسـتـطـيـع الـعـثـور على سـيـارة سرفـيـس تـنـقـلـنـي إلى مـجـمـع الـسـيـارات في مدينة الـزرقـاء.

وكان علي أن أتواجد في مجمع السيارات في مدينة الزرقاء قبل الساعة السادسة والنصف صباحاً كي أنضمّ إلى طابور من الناس طويل يقف أمام لافتة مكتوب عليها (الزرقاء ـ عمان) طريق الأتوستراد وعلى الرّغم من طول هذا الطابور إلا أنه كان سريع الحركة في الغالب لكثرة السيارات العاملة على هذا الخط لكن هذا لا يمنع من التأخير في بعض الأيام.

وعندما أن كنت أصل إلى مُجمّع رغدان في الساحة الهاشمية في العاصمة الأردنية عمان كان عليّ أن أذهب إلى موقف حافلات (خلدا) كي أنضمّ إلى طابور من الناس أطول وأصعب من الطابور الأول في مدينة الزرقاء لأن رحلة الحافلة من هذا المجمع إلى خلدا وبالعكس تستغرق ساعتين من الزمن فلا يمكن الاعتماد على هذه الحافلات العاملة على هذا الخط للوصول إلى عملي في الموعد المحدد فكان لا بد من ايجاد حل.

عرضت مشكلتي على زملائي المدرسين في المدرسة فتبرع أحدهم أن يوصلني إلى دوار الشرق الأوسط ومن هناك أذهب إلى رغدان ثم إلى الزرقاء ثم إلى حي معصوم!وتبرع آخر أن يحضرني معه إلى المدرسة إذا وجدني واقفاً بالقرب من سكنه في جبل الحسين حوالي الساعة السابعة صباحاً!فكنت أترك حافلات خلدا واتجه إلى سرفيس جبل الحسين!هذا لا يعني أن مواصلات جبل الحسين أسهل لكن كثرة السيارات على هذا الخط تجعله أفضل.

فكان لزاماً عليّ أن أكون في جبل الحسين قبل الساعة السابعة وهناك كان عليّ إنتظار زميلي (أبو إيهاب) كي أذهب معه في سيارته إلى المدرسة في خلدا ولك أن تتخيّل الوقفة الطويلة على الدور ودقائق الانتظار التي تصبح ساعات عند كل مرحلة من مراحل هذه الطريق وفوق هذا وذاك كان يجب عليّ حضور طابور الصباح في المدرسة قبل الساعة السابعة والنصف صباحاً.

استمر هذا الحال على ما هو عليه مدة لم تزد عن أسبوعين تقريباً كنت خلال هذه الفترة أبحث فيها عن سكن بعد رحلة الذهاب والإياب للمدرسة إلى أن منّ الله عليّ أخيراً بأن وجدتُ سكناً في عوجان بمدينة الزرقاء أما كيف وجدته؟وكم هو المبلغ الذي دفعته من أجل ذلك فهذا موضوع آخر يطول شرحه؟المهم أنني أعفيتُ نفسي من خط حيّ (حي معصوم ــ المجمع) واستمرّ هذا الوضع الجديد لمدة قاربت الستة أشهر تقريباً.
بعد ذلك اشتريتُ سيّارة خاصّة وارتحتُ وأرحت لكنني لم ولن أنس تلك الأيام وما احتوته من معاناة وأصبحتُ أشعرُ وأتعاطفُ مع كل من أجده واقفاً ينتظر المواصلات على أيّ شارع أمرّ منه خاصة الشوارع التي كنت قد وقفتُ عليها طويلاً وأصبحتُ أستجيب لكل من يطلب مني المساعدة لا بل كنت أعرض نفسي على الشخص الواقف إذا لم يطلب هو مني ذلك صراحة في كثير من الأحيان لأنه كان هناك أناس صنعوا معي ما أصنعه اليوم مع غيرهم.
مشاهد فلسطينية بعيون من عاشوا حرب الخليج
هل يجوز للإنسان أن يكذب؟
المكان:الزرقاء
الزمان:آب1991

جهزتُ نفسي لمغادرة الكويت نهائياً بعد أن حصلت من وزارة التربية الكويتية على شهادات إنتقال لأولادي إلى خارج الكويت تفيد بعدد السنوات التي درسوها في عهد دولة الكويت فقط أي أن الكويتيين لم يعترفوا لأولادنا بالسنة الأخيرة التي كانوا قد قضوها عندهم في الهم والغم وهي السنة الدراسية التي تم إحتلال وتحرير الكويت فيها وعندما حضرت إلى الأردن وجدتهم قد إعتمدوا أوراق الكويت الرسمية وبالتالي سوف لن يعترفوا هم أيضاً بالسنة التي درسها الأولاد في عهد الرئيس صدام حسين.

وهنا وقعت في حيرة كبيرة من أمري فكلّ من حضر من الكويت وأبرز شهادة إنتقال كويتية لأولاده خسّرهم سنة دراسية من أعمارهم فتأثرت من هذا الموقف وقلت في نفسي:ألم يكتفوا بخسائرنا المادية والمعنوية؟ يريدون أن يسرقوا منا سنة دراسية من عمر أولادنا الذين هم أطفال صغار لا ناقة لهم ولا جمل بما حصل؟وانشغلت في هذا الموضوع بيني وبين نفسي وتخزن الموضوع في عقلي الباطن دون أن أدري متى سيخرج ليرى النور ثانية؟.
وبينما كنت جالساً أتقبل العزاء بوفاة أحد أقاربي في مدينة الزرقاء وإذا بهذا الموضوع يعاود الظهور مرة ثانية لكن على شكل فكرة خطرت ببالي لا أعلم إن كانت سترفع الظلم عن صغاري أم لا؟أما هذه الفكرة فكانت أن أدّعي فقدان شهادات الإنتقال وأرمي بالكرة في ملعب وزارة التربية والتعليم الأردنية وعلى الله الإتكال وأردت في الحال أن أختبر إمكانية نجاح هذه الفكرة الآن وليس غداً فقلت لأبي محمد الذي كان يجلس بجانبي:أيجوز للإنسان أن يكذب؟قال أبو محمد:لا فقلت له:ولو لجلب منفعة قال:لا فقلت له:حتى إذا وقع على الإنسان منا ضرر سبّبه له أناس آخرون؟.
فقال أبو محمد:أدخل في الموضوع دون لفّ ولا دوران فقلت له:أريد أن أسجل أبنائي في المدرسة دون أن أبرز شهادات إنتقالهم وسأدّعي فقدانها لأنه بغير ذلك سيخسر أولادي سنة دراسية من أعمارهم ويصبحون بذلك كفريق كرة قدم خسر المباراة دون أن يلعبها فسخر أبو محمد من هذه الفكرة وكاد أن يضحك لكن المكان الذي نحن به لا يسمح له بذلك ومع هذا إبتسم قليلاً وقال:باختصار شديد لن يُسجلوا أولادك في المدرسة دون أن يكون معك شهادات إنتقال لهم من الكويت فلا تتعبني وتتعب نفسك فلو كان هذا الحل يُفيد لجرّبه من كان قد حضر قبلك.
لم أقتنع بما قاله لي أبو محمد هذا وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى مديرية التربية والتعليم في مدينة الزرقاء وقلت للموظف المٌختص لقد فقدت شهادات إنتقال أولادي في الطريق ونحن قادمون من الكويت إلى عمان فقال لي الموظف:ولماذا أنت غاضب ومكتئب؟لتذهب هذه الشهادات إلى الجحيم ما عليك إلا أن تحضر لي جواز سفر يحمل أسمائهم وتواريخ ميلادهم وعندها سأضعهم لك في الصفوف التي يستحقونها.

لم أصدق ما كنت سمعت من هذا الموظف فذهبت مسرعاً إلى البيت وأحضرت جواز السفر المطلوب وأعطيته للموظف وقام بوضع كل واحد منهم في الصف الذي يستحقه بناءاً على تاريخ ميلاده لكنه إشترط عليّ أن أوقع على تعهد بأن يدخل كل طالب منهم إمتحاناً في جميع المواد الدراسية للصف الذي سجله فيه كي تتأكد المدرسة من أنه وضع في الصف الذي يستحقه.

شكرت هذا الموظف وأعربت له عن وافر إمتناني له على ما قدمه لي من خدمة سوف لا ولن أنساها وقمت بتوقيع ذلك التعهد الذي طلبه مني وأخذت ورقة قبول من مديرية التربية والتعليم إلى المدرسة التي أنوي أن أضع أولادي فيها وكانت هذه الورقة تفيد بقبول أولادي في الصفوف التي يستحقونها بشرط أن يخضعوا إلى إمتحان مستوى في جميع المواد الدراسية في الصفوف التي قبلوا بها وبعد أن قدمتها إلى مدير المدرسة قال المدير:اليوم هو الخميس والدوام قد أصبح في نهايته خذ أولادك معك وأحضرهم معك يوم السبت ليدخلوا إمتحان المستوى المطلوب.
