
شاهدتُ سماحة (الشيخ علي الطنطاوي) رحمة الله عليه في برنامجه الشهير (على مائدة الإفطار) الذي كان يُقدّمه بعد الإفطار مباشرة في كلّ يوم من أيام شهر رمضان المبارك في سنوات كانت قد خلت وإذا به يقول في إحدى حلقاته:كدت أن أغرق في البحر لكن البحر لم يُخيفني وركبت الطائرة وعلت في الجو لكن الجو لم يقلقني وضللت طريقي في الصحراء لكن الصحراء لم ترعبني والشيء الوحيد الذي كان قد أخافني وأرعبني وأقلقني هو عملية إيجاد الجذر التربيعي لعدد موجب عندما كنت طالباً صغيراً في المدرسة في حصة الرياضيات.

لا أحد يُشكك في قدرات هذا الرّجل وأمثاله ممّن يعترفون صراحة وبدون لفّ أو دوران أو مُجاملة أنهم لا يستطيعون فهم هذه المادة كما لا بد من التنويه أن إعترافهم هذا لا يُقلل من شانهم أو يجرح من كبريائهم بل على العكس تماماً يُكسبهم إحترام الناس لهم أما أنا فأعترف بالمقابل أن الرياضيات كانت قد ظلمَتْ كثيراً من الطلاب من أمثال شيخنا ونغّصتْ على البعض منهم حياتهم وأخرجت البعض الآخر من مدارسهم غصباً عنهم وحوّلت مجرى حياة الكثيرين منهم إلى إتجاهات أخرى لم يكونوا يُريدوها أو يطلبوها في يوم من الأيام.
لكن هذه الرياضيات بالمقابل ظُلمَتْ من أناس كثيرين أيضاً فنحن مُجتمعٌ ساذج نصدق كل ما نسمع وما يقال دون تمحيص أو تدقيق فما من أحد يروي لنا حادثة أو حكاية معينة إلا ونقول له بعد أن ينتهي من روايتها لنا:صح لسانك لا بل نضيف على تلك الحادثة التي سمعناها ثم نرويها بشكل مُغاير كي تتناسب مع ميولنا وأهدافنا فنحن لا نبحث عن الحقيقة من أجل معرفتها ومن ثم تبليغها للآخرين كما أمرنا الله.

والأهم من ذلك كله أننا لسنا مستعدين لبذل الجهد الكافي لمعرفة الحقيقة ومن منا يعرفها يحتفظ بها لنفسه ولا يبلغها لمن لا يعرفها من الناس فبعضنا كان قد إستصعب مادة الرياضيات فبدأ يروي قصته معها لغيره من الناس ومن يسمع قصته يُضيف عليها أشياء من عنده لم يروها صاحب القصة وهكذا أصبح كل جيل يروي للجيل الذي يأتي من بعده تجاربه مع هذه الرياضيات فتوّلد في المجتمع رأيٌ عام يُقرّ بصعوبتها.

وتعمّق هذا الإقرار واستفحل إلى أن أصبح مشكلة لا بد من حلها وكعادتنا في حل المشاكل نقوم بترحيلها أو نبحث لها عن حلٍ سحري وساهم الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في تضخيم هذه المشكلة فما إن يأتِ إمتحان لمادة الرياضيات في الثانوية العامة إلا ويتلقفه هذا الإعلام (الراقص) ويجعله مادته الأولى وينسى رسالته التي وجد من أجلها ويبدأ بتصعيد الموقف حتى أنه في أحد السنوات وصلت صعوبة أسئلة الرياضيات إلى (مجلس الأمة الأردني) ونوقش سؤال النملتين في إحدى جلساته.

وبذلك أصبح المجتمع كله بما فيهم الطلبة يُطاردون مدرسي الرياضيات ويتهمونهم بتصعيب هذه المادة لزيادة ثرواتهم مما حدا بالمعلمين للدفاع عن أنفسهم فقاموا بتسطيح هذه المادة وتلقينها للطلبة كي تزيد نسب نجاح طلابهم بعد أن أصبحت نسب النجاح هي التي تقرر صلاحية المعلم من فشله لهذا فقد إنشغل معلموا الرياضيات في كيفية تنجيح طلبتهم وليس في تعليمهم ففتحوا لهم المراكز واستبدلوا بكتبهم المدرسية مُلخصاتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع واخترعوا لها الأسماء الجاذبة وأعدّوا لطلبتهم أسئلة مُقترحة يحفظونها قبل الإمتحان بساعة.

وإن تجرأ أحد من أمثالي وتكلم عن هذه المشكلة الكبيرة التي يعيشها كل بيت من بيوتنا في كل سنة مرة أو مرتين سيجد أن الجميع ينفي وجودها وأوُل من ينبري له الطلاب أنفسهم فكل طالب سيدافع عن شيخه ويأتي بعده ولي أمره ليقول لولا الأستاذ (فلان) لما نجح ولدي ويتبعهم مدير المدرسة ليقول أن الأستاذ فلان رفع إسم المدرسة عالياً بهذه النتائج ويأتي من بعدهم صاحب المدرسة ليقول أن الأستاذ فلان زاد عدد طلاب المدرسة وبالتالي زاد دخلها ورضي المساهمون عني بعد أن وزع عليهم الأرباح.

يذكرني هذا الوضع الذي نعيشه الآن بقصة جحا والحمار والسلطان عندما عرض الأخير مسابقته المشهورة على الناس فقال لهم:من منكم يستطيع تعليم الحمار في زمن أقصاه عشر سنوات له مني مليون دينار فلم يجرؤ أحد على الدخول في هذه المسابقة غير جُحا ولما سُئل جحا عن السبب الذي جعله أن يغامر ويدخل هذه المسابقة فقال:بعد عشر سنوات إما أن يموت السلطان أو يموت الحمار أو أموت أنا هذا ما قاله جحا أما أنا فأقول:من فيكم يدلني على طالب رسب في صفه خلال إثني عشرة سنة؟أيُعقل أن يكون كل طلبتنا عباقرة؟أم أننا نرحلّ المشكلة للثانوية العامة؟لنطبق عليها مقولة جحا؟.

سنعود الآن إلى الرياضيات التي تسمى ملح الأرض (Math is the SALT of the earth) فكلمة (SALT) هذه مُكوّنة من أربعة أحرف كلّ حرف منها يشير إلى بداية هامة في حياتنا فمثلا (Science) وتعني علم أختصرت بحرف الـ (S) والكلمة الثانية (Art) وتعني فن واختصرت بحرف الـ (A) والكلمة الثالثة (Language) وتعني لغة واختصرت بحرف الـ (L) والكلمة الرابعة (Tool) وتعني أداة واختصرت بحرف الـ (T) .

وعليه فإن الرياضيات هي علم له مفرداته ومسلماته وقواعده يستخدم الرموز والأرقام والكلمات ليبني منها نظريات حققت للبشرية حياة أفضل وعلينا أن نعلم أنه كلما تطور الإنسان أكثر كلما تطورت معه الرياضيات أكثر وكلما تطورت الرياضيات أكثر تطور معها الإنسان أكثر لأنها فنٌ لمن يستطيع أن يتذوقه وعلم غزير لمن يستطيع أن يكتشفه ولغة عالمية جديدة تضاف لمن يتعلمها وأداة لفهم بقية العلوم لمن يتقن إستخدامها.

فالسؤال بحد ذاته يُعتبر لوحة فنية فهو يستخدم الرسم أحياناً ويتطلب عند وضعه الدقة والوضوح والإيجاز فقد تفهم سؤالاً من شخص ولا تفهمه من شخص آخر لأن الأول كان قد أخرجه لوحة جميلة أما الآخر فلوحته كانت مُشوشة وجواب السؤال أيضاً يعتبر لوحة أخرى مختلفة عن الأولى يُستخدم فيها الخيال والتنظيم والترتيب زيادة على ما سبق والسؤال وجوابه معاً يعتبران لوحة أخرى تتطلب القدرة على الربط بين ما هو مطلوب وما هو موجود؟.

وهي لغةٌ عالميةٌ لها رموزها التي يفهمها الجميع فإشارة (الجذر التربيعي) مثلاً هي نفسها بكل لغات العالم لهذا ولكونها لغة عالمية فقد أقاموا (أولمبياد) عالمي للرياضيات للتقارب بين الشعوب والأمم المختلفة وهي أيضاً أداة لتعليم وتعلم كل المواد العلمية كالطب والهندسة والصيدلة وغيرها وكل الصنائع التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية ولا ننسى أن بالرياضيات استطاع الإنسان أن يصعد إلى الكواكب وأن ينزل بها إلى المناجم.
