لم يبق أمام هذا الحصان الأبيض إلا أن يذهب إلى قبر أمه يشكو لها حاله وما رآه من نكران الجميل من الجميع وعندما وصل قبرها لم يتمالك نفسه عن البكاء وقال لها معاتباً:لو كنت يا أماه أماً عادية مثلك مثل سائر الأمهات لما كنتُ قد رحلتُ عن بلدي ولما كنت قد قطعتُ نهراً ولا كنت قد تهتُ في الصحراء ولا كنت قد ركبتني القرود في المرج الأخضر ولا أنكرني أهلي وناسي بعد عودتي لهم سامحك الله يا أمي على ما جنيت به عليّ وقبل أن ينتهي من عتابه لأمه سمع هتافاً وأهازيج تقترب إليه من بعيد رويداً رويداً إلى أن وصلته وكانت تصيح غلابة يا فتح يا ثورتنا غلابةغلابة الايد اللي ترسل إلى وطنها حتى ولو حمامة.
وأخيراً لم يبق أمام هذا الحصان الأبيض إلا أن يذهب إلى بيت صاحبه لعل صاحبه يتعرف عليه بعد أن تنكر له الجميع ويقوم بتعريف أهل القرية به بعد هذا الغياب الطويل وما أن وصل إلى بيت صاحبه حتى وجد كل شيء من حوله قد تغير وعندما رآه صاحبه لم يتعرف عليه هو الآخر فقال له:أنا الحصان الأبيض ابن الشهيدة التي تحتفلون بوفائها كل عام فهل عرفتني؟فقال له صاحبه:ولكنك لست أبيض كما كنت وبياضك أصبح مزيفاً وأنا مثلك قد تغيرت وتغير الناس من حولي أيضاً كما ترى ولم يعد أحد يميز بين الألوان.
ذهب الحصان الأبيض إلى قطيعه هذه المرة لعل أحداً من هذا القطيع يتعرف عليه لكن هذا القطيع أخذ يدفع به للخارج بعد أن إعتبروه غريباً عنهم فقال لهم:أنا الحصان الأبيض إذا لم تعرفوني فاسألوا عني آبائكم وأمهاتكم أنا إبن الفرس الشهيدة التي تحتفلون بوفاتها كل عام أنا من كنت أرسل لكم الحمام الزاجل ليفرخ عندكم فقالوا له:إن من كنت تعرفهم قد ماتوا جميعاً ونحن لا نعرفك وسار القطبع وترك الحصان الأبيض وحيداً.
حدث كل هذا والحصان الأبيض محبوس في الإسطبل لا يفهم ما دار وما يدور من حوله وفي هذه الأثناء حضر الثعلب إلى الإسطبل ومعه مرافقه الحمار وتعرف الثعلب على الحصان الأبيض فقال للحمار الذي يرافقه:لا أريد مشاكل في هذا المرج (الذي كان أخضراً) فمولاي الأسد يريده أن يكون مرجاً هادئاً لا ينازعه أحد عليه لهذا عليك يا حمار أن تبعد هذا الحصان الأبيض المشاكس إلى بلده فوراً وبأي طريقة تختارها فقال الحمار للحصان الأبيض:والآن بعد أن حطم سليمان النمل المجاور في مساكنه جاء دورك يا حصان يا أبيض فأنت الذي كنت قد ساعدت النمل المجاور على دخول المرج الذي كان أخضراً وعليك أن ترحل لكن بعد أن ينتقم منك أهل المرج كل وما يحلو له وبطريقته الخاصة فأجابه الحصان الأبيض معاتباً:كيف لي أن أساعد النمل وأنا موجود في هذا الإسطبل يا سيادة الحمار؟.
وزأر الأسد مرة ثانية في من حضر من الحيوانات وفي من لم يحضر وما أن سمع الجراد وسمعت الجنادب صيحته حضروا مسرعين من كل حدب وصوب قائلين له:أمرك يا مولاي الأسد نحن كلنا سمع وطاعة لما تأمرنا به فقال لهم الأسد:كلكم تعلمون أن النمل مؤمن بالله مطيع لأنبيائه إلا هذا النمل الذي احتل المرج الأخضر فهو نمل كافر عاص لله ولرسله أجمعين حتى أن هذا النمل لم يخف من جند سليمان!لهذا عليكم أن تعلموا إن كنتم لا نعلمون أن هذا النمل المجاور لم يعرف حجمه ولم يعرف الحدود التي يجب أن يقف عندها!.
قنبلة موقوتة
واعلموا أيضاً أن كل نملة من هذا النمل المجاور الذي دخل المرج الأخضر هي قنبلة موقوتة ستفجر نفسها في الزمان والمكان المحدد لها!لهذا علينا اجتذاب ما نستطيع إجتذابه من أقارب وجيران هذا النمل ونعدهم بالأمن والأمان فينضموا لنا ويعلموننا لغة النمل التي نجهلها وعلى جراد العالم أن يكون رهن الإشارة بعد هذا اللقاء واختار الأسد يوماً غائماً ماطراً وأطلق الجراد على المرج الأخضر وعندما دخل الجراد المرج الأخضر اندهش فيما كان قد رأى فهو لم ير مثل ما رأى في حياته فانتشر الجراد في المرج الأخضر بحجة البحث عن النمل المجاور وإخراجه من المرج الأخضر وفي هذه الأثناء أكل ما وجده في طريقه وبهذا يكون النمل المجاور قد أكل الأخضر والجراد أكمل وأكل اليابس وجعلوا من المرج الأخضر قاعاً صفصفاً!.
لما رأت حيوانات هذا العالم الطامعة وعلى رأسها الأسد عز عليه أن يحتل النمل المجاور هذا المرج الأخضر فاستهجن ملك الحيوانات على هذا النمل فعلته تلك واتهمه على الفور بسلب نصيب الأسد من هذا المرج الأخضر فزأر الأسد زأرة قوية فهمتها كل حيوانات العالم وتقدمت نحوه كل الحمير والبقر والأرانب والعقارب والثعالب والديكة والأفاعي راكعة تحت أقدامه إلا الجراد والجنادب فلم يسمعوا زئير الأسد فغابوا عن الحضور عندها نظر الأسد على من حوله فلم يجد الجراد ولا الجنادب مع الراكعين فقرر أن يُعيد الزأرة مرة أخرى قبل أن يقوم بمعاقبتهم!.
ضاق الحصان الأبيض ذرعاً بهذه الحياة المترفة والمنعمة والتي تجرده من أهدافه ومن قيمه التي تربى عليها في قمم الجبال عندما كان في وطنه الأصلي وضاق ذرعاً كذلك من هذه البلاد التي تتساوى فيها الأحصنة فلا فرق فيها بين حصان وآخر فكل من يرضى العيش في هذه البلاد عليه أن يكون مطية لهذه القرود الآدمية المتجمعة من كل حدب وصوب وعليه فقد اتخذ قراراً في داخل نفسه بأن يعود إلى قريته التي جاء منها في أول فرصة سانحة له رافضاً بذلك رغد العيش طالما أنه مغموساً بالمذلّة!.
وهكذا انقلبت حياة الحصان الأبيض إلى جحيم فكان إذا ما تعب من ركوبه قرد يسلمه إلى قرد آخر وبقي على هذا الحال إلى أن ركبه قرد مختلف هذه المرة عن الجميع فهو لا يريد المطاردة عليه فحسب بل أخذه بالقوة وأدخله إلى إسطبل وأقفل عليه الباب وانصرف وإذا بداخل هذا الإسطبل خيول من جميع الألوان والأعمار والأجناس فاقترب من أحدها وسأله عن أحواله في هذا المكان فأجاب:إن الوضع هنا ممتاز أكل ومرعى وقلة صنعة وبصراحة أكثر نسينا حالنا لأنهم أعطونا أرقاماً بدلاً من أسمائنا وأدخلونا عصر العولمة قبل غيرنا وأنكروا علينا جنسياتنا المختلفة وأعطونا جنسية واحدة عندما سمونا (أجانب) ثم خفض من نبرة صوته الأولى وقال: بيني وبينك أحسن لا هموم شخصية ولا هموم وطنية لكل من يعيش في هذا المكان!.
لكن الحصان الأبيض بقي في المرج الأخضر طيلة هذه السنين الطويلة ولم تستطع تلك السنين أن تغيره فلم ينس قريته ولا صاحبه ولا قطيعه ولا وطنه في يوم من الأيام وفي هذه الأثناء أخذ يرسل الدجاج (البياض) ليبيض ويفرخ في بيوت أهل الوطن تمهيداً لقدومه في يوم من الأيام وبينما هو مسترسل في أحلامه الوردية وإذا بقرد ينزل من على شجرة عالية ويعتلي ظهره ويضع لجاماً في فمه ورسناً ليشد به رأسه لحهته وأخذ هذا القرد يطارد به في أرض المرج الأخضر إلى أن تعب هذا القرد ونزل فاعتلاه قرد آخر وطارد به هو الآخر حتى تعب ومن ثم سلمه إلى قرد ثالث وهكذا أصبحت حياة الحصان الأبيض في المرج الأخضر لا تطاق بعد أن تولت أمره القردة.
عندما رأى ركاب الخيول العربية (وليس فرسانها) خيولهم وقد انتزعت ألجمتها من أفواهها وخلعت أرسنتها من رؤوسها ورمت بسروجها عن ظهورها كي لا تعد صالحة للركوب ثانية من قبل من اعتادوا الركوب على ظهورها تحالف كل هؤلاء الركاب مع (الصقور) ومع الجمال ومع الحمير ومع البغال ومع الذئاب ومع الأفاعي ومع الثعالب وكونوا فيما بينهم حلفاً استطاع هذا الحلف أن يخرج الأحصنة العربية الأصيلة من بيروت وعادت بيروت ثانية من غير خيولعربية أصيلة وتشتت هذه الخيول ثانية في بلاد الله الواسعة وعادت مجموعة منها (بعد أن غيرت لونها) إلى أرض الوطن!.