
لا تقتصر أهمية الماء للإنسان على مساعدته في أداء عملياته الحيوية في داخل جسمه فحسب وإنما يحتاجه أيضاً للنظافة والإستحمام وفي إعداد الطعام والطبخ وفي التخلص من الفضلات والأوساخ ويعتبر الماء عنصر أساسي في الزراعة أيضاً ولا يمكن للإنسان أن بستغني عنه في حياته اليومية لهذا كان الحصول على الماء في الماضي عند سكان هذه القرية هو شغلهم الشاغل ومشكلة المشاكل لأن من يحصل على الماء يحصل على كل شئ حيّ وبدون الماء سيكون محروماً من الزراعة المائية وسيعتمد بالتالي على الزراعة البعلية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وكان سكان هذه القرية وأنا منهم يحصلون على ماء الشرب من بير روماني قديم جداً يسمى بير الدرج وتأتي أهمية هذا البير من أنه منحوتاً في الصخر البازلتي الصلب وللحصول على الماء عليك أن تنزل له عشر درجات للأسفل لهذا سمي بير الدرج لتجد بعدها غرفة مظلمة وفي منتصفها حفرة تتجمع فيها المياه التي تنز من تحت الصخر المُكوّن لهذه الغرفة وهذا البير يبعد عن القرية حوالي كيلو متر واحد لكن هذا الكيلو المتر الواحد طريق صخري وَعِر ضيّق ملتوي حاد النزول لا يمر منه إثنان لو التقيا معاً إلا بصعوبة بالغة وكان على المرأة أن تنزل هذا الطريق بعد أن تلف جسمها بعبائتها وخاصة وجهها فلا يجوز أن يرى وجهها الرجال.

وفوق رأسها جرتها الفخارية وهي فارغة وبيدها سراجها المملوء بالكاز ومعه كبريتة لإشعاله عندما تدخل غرفة النبع ومعها كيلة من التنك كي تملأ بها جرتها من الحفرة التي بداخل هذا البير وعندما تصل المرأة هذا البير عليها أن تنزل الدرجات العشر وتبسمل وتقرأ ما تحفظه من القرآن الكريم لطرد الشياطين من أمامها ثم تنير سراجها لتبدد الظلام من حولها ثم تضع جرتها بالقرب من الحفرة وتمسكها باليد اليسرى وباليد اليمنى تغرف بكيلتها وتصب في الجرة إلى أن يتوب عليها الله وتملأها ثم تحملها بين يديها وتصعد بها العشر درجات التي كانت قد نزلتها وهناك تضعها على حافة البئر.

ثم تعود ثانية إلى الحفرة كي تحضر سراجها وكيلتها وكبريتتها وتعود إلى جرتها ثانية وتدخل رأسها تحت قاعدة الجرة وترفعها بين يديها عالياً ثم تنزل بها إلى أسفل وتثبتها فوق رأسها وتمسك بها بيد واليد الأخرى تحمل يها سراجها وكيلتها بعد أن كانت قد وضعت كبريتتها في عبّها وتبدأ بالصعود إلى أن تصل إلى منطقة صخرية تسمى عراق الوِلِي وهناك تستريح قليلاً ثم تواصل المسير حاملة جرتها إلى أن تصل إلى أطراف القرية وهناك عليها أن تترك جرتها محمولة فوق رأسها دون أن تثبتها بيديها وتمسك بعبائتها وتغطي بها وجهها عن رجال أهل القرية إلى أن تصل إلى بيتها ثم تقوم بإفراغها في الزير وتعاود الكرة مرة ثانية وثالثة إلى أن تملأ زيرها بالماء.

وقد اتفق أهل القرية فيما بينهم وهم نادراً ما كانوا يتفقون على تقسيم اليوم إلى ثلاث ورديات صباحية ومسائية وليلية وقاموا بتوزيع السكان على هذه الورديات الثلاث وعلى الجميع الإلتزام والتقيد بهذا الدور!ومن لم يملأ جراره في ورديته سيبقى بدون ماء إلى أن يأت دوره في الوردية القادمة وعليه أن يدير نفسه ويحضر مائه من أي مكان آخر وفي نهاية كل أسبوع يقومون بتغيير الورديات الثلاثة فيما بينهم لتحقيق أكبر قدر من العدالة.

وعندما تكون وردية الأسرة في الليل فعلى الرجل أن يرافق زوجته في رحلة الذهاب والإياب إلى بير الدرج هذا وعليهما أن يسهرا معاً معظم أطراف الليل في سبيل الحصول على ما يلزمهم من ماء لهذا كان الماء عزيزاً في ذلك الوقت فهم يعانون في الحصول عليه ويذهبون إليه ويحضرونه إلى بيوتهم لهذا كان عليهم تخزينه في بيوتهم من خلال أوعية قاموا بصنعها من الحِوّر الموجود منه في منطقة الهدايف وهذه الأوعية كانت مختلفة الأنواع والأشكال والأحجام ولكل منها إستخدامه مثل الهشة والعسلية والكراز وغيرها.

وكان مما عانته أمهاتنا وجداتنا في الماضي القريب (جزاهن الله خيراً) من تعب وجهد في النهار وسهر في الليل في سبيل الحصول على الماء سواء كان للشرب أو الغسيل أو الحمام جعل الماء في حياتهن أغلى من الذهب!حتى وصل بهن الأمر إلى أنه لو شرب شخص من الكيلة الموضوعة فوق الزير ولم يُكملها وجاء شخص آخر يريد أن يشرب من بعده فكان عليه أن لا يسكب الماء المتبقي في هذه الكيلة بل عليه أن يشرب الباقي أولاً ثم يزيد عليها من الزير إذا بقي هذا الشخص عطشاناً لهذا كان لو مرض أحد أفراد الأسرة فسيلحق به الآخرون من وراء هذه الكيلة.

وكان عدم توفر الماء والجهد المبذول في الحصول عليه قد إنعكس أيضاً على نظافتنا الشخصية فكان لزاماً علينا أن نقتصد في إستعمال هذا الماء ولو على حساب نظافتنا الشخصية فكان لنا أن نغسل وجوهنا وأيدينا مرة واحدة في اليوم!وفي هذه المرة علينا أن لا نزيد عن عدد المرات التي أقرها الله تعالى في الوضوء لهذا كان الناس إن وردوا الماء أول شيء يقومون به هو غسل الوجه والرأس واليدين عدة مرات ومنهم من كان يستحم في هذا النبع كي يوفر على أمه أو زوجته نقلة ماء.

أما يوم إستحمام أفراد الأسرة فحدث عنه ولا حرج فعلى الأم أن تحضر من (بير الدرج) جراراً من الماء بعدد أفراد الأسرة وعليها أن تشعل نار الحطب لتسخين هذه المياه وقبل ذلك كله عليها أن تقنع أولادها وبناتها بضرورة الإستحمام فهم غير معتادين عليه ولا يطلبونه وكثير منهم كان لا يقتنع بضرورته لهذا كان على أمه أن تسحبه بالقوة وتخلع عنه ملابسه وهو يبكي فتقوم بضربه وهو عارياً ليسكت وبعد أن يقتنع بضرورة الحمام تدخل رغوة الصابون النابلسي في عينيه فيزيد من بكائه أكثر فتضربه أمه أكثر.

وكانت تجري هذه الملحمة أمام إخوته وحتى تقنعه أمه بفائدة الحمام وتشجع أخوه الآخر كانت تقول لمن إستحم أنه رمى وسخه على أخيه فيفرح من كان قد إستحم ويتشجع الآخر كي يتخلص من وسخه ومن وسخ أخيه ويرميه على الآخر وبهذا كانوا يخلقون بين أولادهم التنافس والتنافر وحب الذات دون أن يعلموا وبعد ذلك يأتي دور الرجل وقبل أن ينتهي من تنظيف جسمه ينادي على زوجته كي تدعك له ظهره وبعد ذلك تستحم المرأة ولا تطلب مساعدة من أحد.

أما يوم الغسيل فلا يختلف كثيراً عن يوم الإستحمام عند نساء هذه القرية لكنهن بدلاً من أن ينقلن المياه على رؤوسهن رأين أن ينقلن غسيلهن إلى الماء أسهل فكن يخترن يوماً مشمساً ويذهبن فيه مجتمعات صباحاً إلى نبع عين موسى أو إلى نبع بير المرج أو إلى الشعابي وهذه الأماكن الثلاثة تبعد عن القرية أكثر من ثلاث كيلومترات ومعهن غسيلهن المتسخ وهناك يقمن بجمع الحطب ويشعلن النار لتسخين المياه ويقمن بعملية الغسيل وينشرن ما يغسلن على الأشجار ليجف ويقمن بعد ذلك باختيار مكان مناسب للإستحمام واحدة بعد الأخرى بعد أن يقمن بحراسة المكان جيداً ثم تلم كل واحدة غسيلها ويعدن إلى القرية في المساء.
