
في القرن الماضي لم تكن السيارات منتشرة كما هي اليوم، ولم تكن الطرق معبّدة، بل كانت هذه الطرق التي تصل القرى ببعضها البعض وعرة، لدرجة أن الدواب تعجز أحياناً على السير فوقها. لكن مع هذا كان التواصل أكثر مما هو عليه الآن، فكانت العلاقات الاجتماعية بين الناس أقوى بكثير مما نراه اليوم، وكان للصداقة معنىً كون الذي يُحبك يأتيك على القدم ماشياً، كما كانوا يُغنون في صحجاتهم الليلية، وكان واجباً على كل من يزور قريباً أو صديقاً أن يأخذ معه هدية مما تيسر، وعلى من يُزار ردّ هذه الهدية أيضاً بمثلها أو أحسن منها في الحال.

في أحد تلك الأيام الجميلة الماضية، اشتاق والدي لصديق له، وقرر أن يزوره في قريته التي تبعد عن قريتنا حوالي عشرة كيلو مترات على الأقل، طبعاً مشياً على الأقدام، وفوق ذلك كله حاملاً على كتفيه سلة من التين والعنب لصديقه كهدية. خرج من بيته في الصباح الباكر ووصل إلى صديقه قبيل الظهر وما أن وصل والدي صديقه حتى رحّب به وقام بواجب الضيافة وبقي في ضيافته إلى أن بدأت الشمس تغادر المكان واستأذنه والدي كي يعود إلى بيته.

احتار صديقه في نوع الهدية التي سيقدمها لوالدي مقابل هديته، وقرر أن يأخذ رأي زوجته في الموضوع فاقترحت عليه أن يهدي والدي “بقلولة” من اللبن الرائب، فهي تعلم أن والدي لا يقتني لا غنماً ولا بقراً، ولمن لا يعرف البقلولة من جيل هذه الأيام فهي علبة لبن بلغة اليوم مصنوعة من الفخار ولا بد لي من أن أذكّر القارئ أنه في ذلك الزمان كان عيب عليك أن ترفض الهدية مهما كان نوعها، ولذا فقد اضطر والدي إلى حمل هذه البقلولة بين يديه بعد أن شكر صديقه وودعه وعاد بها إلى قريته.

في طريق عودته إلى بيته داهمه الليل وحل الظلام في كل مكان حتى أنه لم يعد يرى موضع قدميه في طريق جبلية وعرة منحدرة، إلا أنه استطاع أن يحافظ على هذه البقلولة سليمة إلى ما قبل البيت بعدة أمتار فقد تعثّر في حجر فوقع أرضاً وانكسرت بقلولة اللبن التي كان قد حملها كل هذه المسافة الطويلة، وتفتت إلى قطع صغيرة متناثرة إلا قطعة واحدة منها كانت كبيرة وتحمل في داخلها شيئاً من اللبن فما كان منه إلا تركها في مكانها والعودة إلى البيت ليجدنا نياماً فنام معنا دون أن نشعر به.

القرية زادنا وزوادنا على مدار السنه حفظ الله مدن فلسطين وقراها وححفظ الله ترابنا الفلسطيني من كيد الكائدين وثبت الله المرايطين من قرى ومدن فلسطين على اراضيهم ومزارعهم والله غالب على امره
إعجابإعجاب