كنت أحب المدرسة والمدرسون وبالمقابل كان المدرسون يحبونني أيضاً فقد كنت قد حصلت على شهادات تقدير وجوائز في كل السنوات السابقة لكنني في هذه السنة التي سبقت سنة الإحتلال (عندما كنت في الصف السابع) كان ترتيبي الرابع مُكرّر في صفي فكسروا القاعدة من أجل أن يُعطوني شهادة تقدير لتكون آخر أحلى ذكرى أتذكرهم بها على الرغم أن مثل هذه الشهادات لا تعطى إلا للثلاث الأوائل فقط.
كنت أعتبر الذهاب إلى المدرسة أفضل بكثير من الجلوس في البيت فقد بدأت أملّ من لعب الورق مع أولاد الجيران واشتقت إلى زملائي الآخرين في المدرسة فقد زاد في نفسي حب الفضول كي أعرف من بقي منهم في الكويت ومن سافر منها فأنا لي أصدقاء كثيرون ومن مختلف البلدان العربية فقد كان أهلي ينعتونني منذ صغري بالقومي العربي لأن أصدقائي كانوا من جنسيات عربية مختلفة.
لم أكن أعلم بأن العراقيين كانوا قد إستغلوا المدرسة والتعليم والأطفال الصغار أبشع إستغلال ولم أكن أعلم بأنهم فتحوا أبواب المدارس هذا العام غصباً عن أهلها وملؤوها بالجنود الأشاوس لحراستها من الكويتيين الذين لا يريدون فتح مدارسهم تحت نير الإحتلال العراقي ولم أكن أعلم بأنهم فتحوا المدارس كي يتبجحوا ويدّعوا في وسائل إعلامهم أن الأمور تسير على ما يرام في الكويت (هكذا نحن العرب نحب تجميل الصورة دوماً لنظهر أنفسنا أبطالاً أمام الناس) حتى أنهم ذهبوا إلى إحدى المدارس وجمعوا الطلبة الفلسطينيين فيها ولقّنوهم ما سيقولونه وبثوا المشهد من تلفازهم العتيد ليقنعوا الرئيس صدام حسين وأنفسهم بأن الشعب الفلسطيني يؤيدهم وبهذا كانوا قد غرزوا خنجرهم المسموم في الجسم الكويتي الفلسطيني عقاباً أبدياً لهذين الشعبيين معاً.
حمدت الله أنني لم أكن واحداً من هؤلاء الطلبة المُبتَلِين في ذلك الوقت وهذه الحادثة كانت قد ذكرتني بمشهد كنت قد شاهدته ذات يوم في التلفاز وهذا المشهد لثلاث من الطلبة العرب المتواجدين في أمريكا يريدون تعليم بنت أمريكية اللغة العربية بناءاً على طلبها فكان يقول الواحد فيهم الكلمة وهي تردّد ورائه ما يقول دون علم أو دراية فكان الأول يقول:تسقط أمريكا وردّدت البنت ما قاله لها أما الثاني فكان يقول لها:أنا حمارة والبنت تردد ما يقوله لها الثاني وأما الثالث فكان يقول لها:أنا أحبك وأريد الزواج منك والبنت تردد ما كان يقوله لها الثالث فهل تُلام مثل هذه البنت الأمريكية على ما كانت تردده وراء كل واحد منهم؟وهل يحاسبها من في رأسه ذرة من عقل على كلامها هذا؟.
دخلت المدرسة وأحلام الصغار ترفرف من حولي واندهشت عندما رأيت الجنود يستقرون في هذه المدرسة وعندما إلتحقت بطابور الصباح فيها وإذا بي أقف تحت علم آخر وأنشد نشيداً آخر لم أتعوده وأعطوني كتباً غير الكتب التي كنت قد تعوّدت على رؤيتها والأهم من ذلك كله عندما بدأ الأستاذ في شرح درسه لم أفهم عليه ما كان قد قاله لنا فكلماته أصبحت كبيرة طويلة خالية من المضمون على الرغم أنه نفسه كان أستاذي في السنة الماضية يا إلهي هل يتلوّن الأستاذ أيضاً بلون البيئة؟كنت أظن أن صفة التلوين هي فقط للحرباء.
لفت إنتباهي عدم وجود طلبة كويتيين في المدرسة!لكنني لم أفهم لماذا؟ وتساءلت في نفسي هل يوجد طالب لا يحب أن يذهب للمدرسة؟حتى ولو كان من باب حب التغيير؟هذا يعني أن في الأمر شيئاً لا أستوعبه لوحدي وسرعان ما إنتشر خبر مؤكد في المدرسة بين الطلاب والمدرسين بأن المقاومة الكويتية قد أعدمت مدرساً فلسطينياً وهو في طريقه إلى المدرسة على الفور اختلف الطلاب فيما بينهم على هذا المدرس المغدور فمنهم من قال:إنه (شهيد) وسيدخل الجنة لأن هدفه نبيل وهو تعليم الصبية والتعليم ليس له علاقة بالحاكم إن كان عباسياً أو أموياً ومنهم من قال:إنه (عميل) يريد مساعدة الظالم على ظلمه وعلى إخفاء الحقيقة وهي أن الناس ترفض الإحتلال فرد عليه الأول وقال:وماذا لو طال زمن الإحتلال هذا؟هل نلغي التعليم عندئذ؟ولماذا لا يحتج الكبار على الإحتلال؟.
هكذا استمرت الحياة في الكويت بين شد وجذب وخلاف واختلاف حتى أن الإنسان منا أصبح يختلف مع نفسه إن لم يجد من يختلف معه فقد لخص هذا الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه سائق شاحنة لنقل الماء (تنكر) عندما كتب بالخط العريض وعلى إمتداد شاحنتة من الجانبين:عليه الطلاق ما هو فاهم حاجة مما حدث ومما يحدث الآن ومما سوف يحدث مستقبلاً من يفهم فيكم عليه أن يُفهمني.
وسارت الأمور بعد ذلك إلى الأسوأ لكنني على الأقل تخلصت من الفراغ ولعب الورق لغاية يوم 15/1/1991 حيث رُمي على المدرسة من خارجها بعضٌ من إطارات السيارات القديمة المشتعلة فهرع الجميع إلى تلك النار وأخمدوها بالرمال بعد ذلك جمع المدرسون طلاب المدرسة كلها في صف واحد وبعدها ألغي دوام ذلك اليوم الذي كان آخر عهدي في المدرسة بعد أن قصفت طائرات التحالف بغداد وبدأت الحرب وأقفلت المدارس أبوابها بالقوة كما كانت قد فُتحت أبوابها بالقوة.