
بعد أن سار الباص نصف ساعة تقريباً في اتجاه مدينة الموصل خطر في بالي أن أتفقد جواز سفري (لا أعرف لماذا؟) فلم أجده في جيبي فتذكرت في الحال أنني نسيته في الفندق الذي كنت أقيم فيه في بغداد فأوعزت إلى مساعد السائق بأن يقف لي لأنني أريد الرجوع إلى بغداد ثانية فوقف السائق وأنزل مساعده حقيبتي من على ظهر الباص وقال لي:قف في الاتجاه المعاكس سيأتي باص آخر وتركب به لتعود ثانية إلى بغداد.

وهناك لم أنتظر كثيراً وما هي إلا دقائق معدودة وإذا بالباص المتجه إلى بغداد قادماً فصعدت به مع حقيبتي فعرفني مساعد السائق أنني رجل غريب فقال:عيني من أي بلد أنت؟قلت له:من الأردن فقال:أهلاً وسهلاً بأهل الأردن وبأهل الزرقاء وبأهل خوّ أيضاً فأنا أحد أفراد الجيش العراقي الذي كان قد أقام عندكم في خوّ بعد حرب الأيام الستة وبعد أن عايشتكم عرفت بعدها كم أنتم طيبون؟وتابع كلامه:إلى أي مكان أنت تريد أن تذهب عيني في بغداد؟.

قلت له:أريد منك أن توصلني إلى ساحة الوثبة في بغداد فقال:ساحة الوثبة شاسعة أنا أسألك عن أي موقف منها تريد أن أقف لك به ليكون الأقرب لك على الفندق الذي كنت تقيم فيه؟فقلت له:أنا لا أعرف أسماء المواقف فقال:ما إسم الفندق الذي كنت تقيم فيه؟قلت له:لا أعرف لكنني أستطيع التعرف عليه إذا ما أوصلتني إلى ساحة الوثبة فقال:سنمر في طريقنا على ساحة الوثبة وعندما تتعرف على المكان الذي تريد أن تنزل به ما عليك إلا أن توعز لي بالوقوف فأنا مستعد أن أقف لك حتى ولو كان الوقوف فيه ممنوعاً.

ارتحت لهذا الرجل وأردت أن أكرمه فما كان مني إلا أن فتحت علبة سجائري وكانت من نوع روثمان والعراقيون يحبون هذا النوع من السجائر وأعطيته سيجارة ورغبت أن أزيد في إكرامه بأن أشعلها له فتناولت ولاعتي من جيبي وضغطت عليها بعد أن اقترب بوجهه منها وإذا بها تصدر شعلة كبيرة غير متوقعة في وجه هذا الرجل لتحرق شاربيه وامتدت إلى حاجبيه أيضاً وبدأ هذا الرجل يتوجع من حرق النار وأنا أتوجع من الإحراج تأسفت له وبقي يُحسس على وجهه إلى أن تعرفت على المكان الذي أقصده فأوعزت له بالوقوف فوقف ودّعته ونزلت من الباص متجهاً إلى الفندق.

بعد أن وصلت الفندق أخذت جواز سفري وعدت إلى مجمع الباصات مرة أخرى وركبت في أحد هذه الباصات وانطلق بي إلى مدينة الموصل ثانية وبهذا تكون قد حُلّت مشكلة لكن هناك مشكلة أخرى أصعب منها بكثير وهي مشكلتي مع الأكل العراقي فهي لا زالت قائمة وفي الطريق كان يقف الباص في استراحات ويأكل الجميع منها إلا أنا فلم يعجبني أكلهم وأخيراً وصلنا مدينة الموصل حوالي منتصف الليل فنزلت في أحد الفنادق وكان مظهره الخارجي غير مظهره الداخلي لكن وجود طلبة عرب يدرسون في جامعة الموصل يسكنون على سطحه جعلني أقبل الإقامة فيه.

وضعت حقيبتي في الغرفة وصعدت فوراً إلى هؤلاء الطلبة لأسألهم عن صديق لي في جامعة الموصل الذي كان له نصيب كبير في هذه الرحلة فهو صديق قديم لي أحبه وأحترمه كثيراً وعندما سألتهم عنه قالوا لي:ندلك عليه في الصباح بعد ذلك سألتهم عن مطعم أستطيع الأكل فيه بعد أن شرحت لهم مشكلتي مع الأكل العراقي فقالوا:بما أنك تسكن في مدينة حلب وتتذوق الكبة الحلبية اذهب إلى مطعم الكهف فستجد فيه كل ما تريد وذهبت في الحال بعد أن استبشرت خيراً وطلبت كبة حلبية فلم أجد فيها إلا اسمها حلبي فقط فهي لا تمت إلى كبة حلب بأية صلة وعدت إلى الفندق جائعاً وفي صباح اليوم التالي التقيت بصديقي محمد فيصل الناصر وقلت له:أنا جائع لم أذق طعم الأكل منذ أن دخلت أرض العراق اطعمني أولاً فأخذني إلى بيته وصنع طعاماً وأكلت.
