
عندما وصلت إلى مدينة الكويت لأول مرة وحدثت أخي الأكبر بما كان قد حدث معي في دمشق لامني أشد اللوم بأن قال لي:طول عمرك تحب المُكابرة التي تحب أن تسميها اعتماد على النفس لقد كان بإمكانك أن توفر على نفسك معاناتك هذه باتصال تلفوني معي من أي مكان وعندها أنا اتصرف على كل حال ما حصل كان قد حصل هيّا بنا نذهب إلى مكتب البريد لنرسل لصاحبك فلوسه ولم نركب سيارة أجرة للوصول إلى مكتب البريد كما هي العادة في كل الدول التي كنت قد عشت فيها أو قمت بزيارتها بل ركبنا (بيك أب) لنقل البضائع يسمونه (الوانيت).

وعندما سألت أخي الأكبر عن سبب ركوبنا في هذا الوانيت وليس في تكسي أجرة أو باص نقل عام أفهمني بأن هذا الوانيت ليس له خط ثابت يسير عليه كالباص أو تكسي الأجرة بل يستطيع أن يذهب بك إلى أي مكان تريده في الكويت بأجرة معقولة بعكس تكسي الأجرة فله خط ثابت لا يحيد عنه وإذا طلبت منه أن يغير خطه فسيضاعف عليك الأجرة أضعافاً مضاعفة.

بقيت في الكويت قرابة الشهر تقريباً وهي المدة التي يمنحها كرت الزيارة فوجدتها قد جُهّزت لتكون بؤرة لسوق إستهلاكية كبيرة في الشرق الأوسط تضاهي هونغ كونغ في آسيا على الرغم أن الكويت بلد صغير في مساحته وفي عدد سكانه أيضاً لكنها بلد غنيّ بموارده النفطية ويستضيف على أرضه أشخاصاً من جميع الجنسيات العربية وغير العربية من العمالة الوافدة فما يزرعونه بذوراً صغيرة في أرض الكويت سينبت لهم أشجاراُ كبيرة مثمرة في كل البلاد العربية والإسلامية غير العربية.

ولتحقيق أهدافهم هذه كان لا بد من تغيير قيم ومفاهيم مجتمعية شرقية كانت سائدة في المنطقة العربية كلها وليس في الكويت فقط كنا قد توارثناها جيلاً بعد جيل كان أولها أن (من يعمل يكسب ومن لا يعمل لا يكسب) لكنني وجدت في الكويت الكثير من الناس الذين يكسبون دون أن يعملوا فإن كنت كويتي الجنسية مثلاً فجنسيتك وحدها تكفي أن تأخذ ممن يعمل 51% من عمله ومن يعمل له 49% أي أن من لا يعمل يكسب أكثر من الذي يعمل هذا عدا عن إخراج الكفالات والإقامات وكروت الزيارة فكلها لا تحتاج إلى عمل بل تحتاج إلى توقيع من شخص كويتي الجنسية فقط لا غير.

وثاني هذه القيم التي كانت قد إنتحرت على أرض الكويت فكانت ما أوصانا به رسولنا الكريم محمد بأن (صاحب الحاجة أحق بحملها) فإن لم يستطع فيجوز له أن يطلب المساعدة من غيره هكذا كان قد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أما في الكويت فوجدت جيشاً من الخدم أكثر عدداً من السكان الأصليين فالرجال الكويتيون (وقلدهم غير الكويتيين فيما بعد) في مجالسهم يتباهون بما يملكون من خدم وحشم والنساء في مجالسهن يتباهين بما يملكن من خادمات وجاريات والخادمات عندهن درجات فمن تملك الفلبينية ليست كمن تملك السيرلنكية أو الهندية.

والأخطر من ذلك كله أنهم في الكويت خاصة وفي دول الخليج عامة يعتبرون أنفسهم من أولياء الله الصالحين ويبررون لأنفسهم ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فهم يقولون أن من يرضى عنه الله ورسوله يعطيه في الدنيا بغير حساب ومن يغضب عليه يحرمه من متاع الدنيا فلأن الله كان قد أعطاهم الكثير ومنع عن غيرهم في بلاد الشام والمغرب العربي وشمال إفريقيا فهم بالتالي الأقرب إلى الله تعالى.

ويا ليت الموضوع كان قد إنتهى عند هذا الحد وفقط بل زادوا عليه كثيراً حين قالوا أن الله كان قد سخر لهم شعوب جنوب شرق آسيا خدماً وغلماناً وجواري لهم في الدنيا قبل الآخرة لقربهم من الله تعالى ويقولون (ولو في قرارة أنفسهم) أن ما كان قد حصل أو سيحصل لغيرهم من الشعوب العربية الأخرى في بلاد الشام وشمال إفريقيا ما هو إلا عقاب من رب العالمين لهم نتيجة كفرهم وبعدهم عن الله ورسوله.

وثالث هذه القيم كانت ما تعلمناه من السلف الصالح عندما قالوا لنا(على قد فراشك مد رجليك) أما في الكويت فقد إخترعوا لهم مقابل هذه الوصية نظام البيع بالأقساط الذي لم يكن مألوفاً لدينا لكنهم حللوه دينياً وألبسوه ثوباً إسلامياً وسموه بيع الأجل وأغرقوا الأسواق بالسلع الكمالية التي لا تسمن ولا تغني من جوع وقاموا بتوزيع الهدايا المجانية لترويج هذه السلع وبهذا أصبح باستطاعة المرء في الكويت أن يحصل على كل ما يريد وقتما يريد بكل سهولة ويسر وأصبحت الحياة في الكويت سهلة بسيطة ليس فيها أمنيات فكل ما يتمنى المرء فيها كان يدركه.

وقبيل أن تنتهي زيارتي هذه للكويت إقترح عليّ أحد معارفنا هناك طريق العودة إلى مدينة حلب حيث كنت أدرس بأن أركب السيارة من مدينة الكويت إلى مدينة بغداد ومنها إلى مدينة الموصل بالسيارة ومن مدينة الموصل أركب القطار إلى مدينة حلب فأعجبتني هذه الفكرة ولكنها لم تعجب أخي الأكبر فهو كان يرى أن أعود بالطائرة كما قدمت وحذرني من المشقة التي سأواجها لأن الطريق سيكون طويلاً ومتعباً لكن الشباب وكنت منهم يحبون المغامرة والتحدي.
