قمت بزيارة خاطفة إلى جمعية الوفاء لرعاية المسنين في مدينة سلفيت بمعية رئيسها المهندس فؤاد حسين عبود، رحمه الله، وأمين صندوقها السيد سائد ياسين. ومن المعروف أن من كُتب عليه الإقامة الجبرية في دور الرعاية يستسلم للأمر الواقع وينسى الماضي بكل تفاصيله ويعيش الحاضر إلا إمرأة داهمها خريف العمر من نزيلات هذه الدار كانت في استقبالنا على الباب الخارجي، وما أن رأت الباب يُفتح حتى استبشرت خيراً وهذا الفرح ظهر في تعابير وجهها دون أن تتكلم فتقدمت بسرعة نحو الباب ظناً منها أن الباب فُتح لها كي تعود إلى المكان الذي مُنعت من الوصول إليه، وكانت هذه المرأة تئن بانتظام دون ألم عضوي، فصحتها جيدة فلماذا تئن إذن؟ حاولت أن أعرف سبب أنينها لكنني فشلت لوحدي فلا بدّ من السؤال لكن في الوقت المناسب.

ما أن فُتح الباب الخارجي ودخلنا حتى بدأت هذه المرأة تهيء نفسها للخروج، ظناً منها أن الباب فُتح من أجلها فأصدروا على الفور أمراً بإغلاق هذا الباب بعد دخولنا، وعندما قطعت الأمل من الخروج عادت وانضمت إلينا وهي تئن بشكل منتظم، لكن من غير ازعاج. لفتت انتباهي تلك المرأة أكثر من غيرها، وبدأت أنظر إليها خلسة وأفكر علّني أعرف شيئاً عنها لوحدي فلم أستطع، فأخرجت سيجارة وأشعلتها علّها تساعدني على ذلك فلم أفلح. ومما زاد الطين بلة أنها عندما رأتني أدخن قامت من على كرسيها وأحضرت لي مكتة للسجائر وكأني ضيفٌ في بيتها، وما أن أحضروا لي الشاي حتى سبقتهم إليه وتناولت كأساً من على الصينية وحملته بيدها النحيلة وهي ترتجف ووضعته أمامي دون أن تتكلم، فهي غير قادرة على الكلام لكنها كانت تئن كعادتها.

أحرجتني هذه السيدة أكثر عندما قامت وقدمت لي الشاي دون أن تشربه معنا والأصل في الأشياء أن أقوم أنا بخدمتها وليس العكس، فانشغلت بها أكثر وأكثر بعد أن ذكرتني بوالدتي ـ رحمها الله ـ في الحال عندما كانت تكرم ضيوفها في بيتها رغم تقدمها في السن. لم أتمالك نفسي فبدأت أبكي سراً في داخلي دون أن أشعرها أو أشعر أحداً ممن هم حولي بذلك، وعندما تمكنت من ضبط حالتي النفسية سألت عن هذه السيدة فقالوا لي: إنها سيدة من إحدى القرى المجاورة لمدينة سلفيت التي ابتلع الجدار العنصري الجزء الأكبر من أراضيها ومن جملة ما بتلع هذا الجدار (كرماً) من كروم الزيتون الذي كانت هذه المرأة قد زرعته بيديها، وحافظت عليه طوال هذه السنين، إلى أن جاء هذا الجدار واغتصب منها كرمها وجاء بها إلى هذه الدار.

لم تستسلم هذه المرأة كغيرها وقررت أن تحفر بيديها حفرة تحت الجدار لتدخل منها إلى حقلها، واستمرت في الحفر اليومي فكانت مرة تصيب ومرات تخيب فإذا أصابت حفرت وإذا خابت واكتشفها الأعداء يقومون بتسليمها إلى الارتباط العسكري، والذين يقومون بدورهم بإعادتها إلى بلدها، لتعود ثانية وثالثة ورابعة إلى أن تمكنت من إتمام مهمتها ونجحت في الوصول إلى أرضها وجلست تحت ظلال زيتونتها المفضلة. وعندما يكتشفها الأعداء يردموا ما حفرت في الجدار ويسلموها إلى الارتباط ثانية وتعود وتغير مكان الحفرة الأولى التي ردمها الأعداء وتحفر غيرها وتدخل أرضها وتجلس تحت زيتونتها المفضلة.
