
كبر الأولاد (بسرعة البرق)، وتعلموا في الجامعات، واشتغلوا، وتزوّجوا، ورحلوا من بيت والدهم، إلا أصغرهم سناً، فقد أبى إلا أن يدخل الجنة عن طريق أمّه، أمّا زوجته فأبت إلا أن تدخل الدنيا، ولكن عن طريق أبيه، ففي أحد الأيام تحمّس هذا الولد، وقال مُخاطباً والديه معاً: لن أبرح هذا المكان، وأنتم على قيد الحياة، وسنخدمكم أنا وزوجتي بعيوننا، فهي بنت أصول، وتعرف جيداً، أن الجنة تحت أقدام الأمّهات، وأن الوالد هو أوسط أبواب الجنة.

ما أن سمعت زوجته، ما قاله زوجها لوالديه، احتدّت ورغت وأزبدت، وقالت: ليسمع الجميع ما سأقول: لا شيء في هذه الدنيا دون مُقابل. إبنكم يُريد أن يدخل الجنة في الآخرة، فمبروكة عليه، أما أنا، فأريد أن أدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة. ردّ عليها زوجها قائلا: لم أفهم ما تقصدين يا زوجتي العزيزة؟ فخفّفت زوجته من لهجتها، وقالت: سأفهمك يا زوجي العزيز أكثر. إذا أردت أن تعيش مع أهلك في بيتهم هذا، فعلى الرّحب والسّعة، ولكن على الوالد الكريم، أن يتنازل لنا عن كلّ شيء يملكه مُقابل ذلك.

وما أن سمع الوالد ما قالت زوجة إبنه الأصغر، حتى جُن جُنونه، فقال مُخاطباً إبنه: هذه إذن مُقايضة، وليست برّ والديْن، كما إدّعيْت يا ولدي، أتريدني أن أبيع آخرتي بدنياي؟ ماذا سأقول لربّي عند الحساب؟ إذهب أنت وزوجتك إلى الجحيم، فلم أعد بحاجة إليكما. حصل كل هذا الحوار، والأمّ حائرة بين موقف ابنها، وموقف زوجها، فقرّرت أن تُدخل بعض التعديلات عل الموقفيْن، وتجمعهما في موقف واحد، إلا أنهـا خافت، أن تُقحم نفسها في أمور، قـد يكـون لهـا تبعات، لا تُحمد عُقباها في المُستقبل، ففضلت السكوت على الكلام.

لم تستطع الأم المحافظة على سكوتها، عندما بدأ إبنها يُعدّ نفسه للرّحيل، فسألته على الفور: ما هي أخبار الجنة التي كنت تطلبها يا بني؟فأجابها ابنها: إن دخول الجنة له أبواب كثيرة يا والدتي العزيزة، منها ما هو مكلف، ومنها من هو مريح، فأنا سأغلق الباب المُكلف، وأفتح الباب المُربح لي في الدنيا قبل الآخرة، لهذا فأنا سأغلق باب برّ الوالدين المكلف، وأفتح باب إطلاق اللحية، وحفّ الشوارب، وتقصير الثوب، فكلا البابين يُدخل الجنة.

فقالت له أمّه: يا ولدي لقد خدعتم الناس في الدّنيا، ولكنكم لن تخدعوا الله في الآخرة، ماذا ستقول لربّك غداً، عندما يسألك عن والديْك؟ فردّ عليها إبنها قائلا: سأزوركم في السنة الواحدة مرتيْن، كي أسقط عن نفسي وزر عُقوق الوالديْن، وأهرب من تُهمة قطع الأرحام في الدنيا والآخرة، أما أنا الآن، فسأترككم في حفظ الله ورعايته. ورحل عنها ابنها، وبقيت هي وزوجها يُعانون من قساوة الحياة في خريف العمر، وأصبح لا يزورهما إلا في العيديْن فقط، وبمفرده دون زوجته وأولاده.

وفي آخر زيارة له في يوم عيد الأضحى المبارك، تجرّأت الأم وسألته عن سبب عدم إحضار أولاده معه؟ فأجابها: اليومُ يومُ عيد، وأهلُ زوجتي يستغلون مثل هذه المُناسبات، ويغدقون عليها وعليهم العطايا والهبات، فإذا أحضرتُهم معي فسنخسر الكثير، ثم أكمل حديثه بأن قال: هكذا قالت لي زوجتي صباح هذا اليوم، عندما هممتُ بإحضار أولادي معي. فأزعجها هذا الجواب، وقالت له: وماذا عن باقي أيّام السّنة؟ فأجابها قائلا: إن من بدأ الأمور يُنهيها، فردّت عليه قائلة: هل يجوز أن أدفع ثمن فقر زوجي، وفشله في رشوة أولاده وأحفاده؟ هل من المعقول أن لا أعرف أولادك حتى الآن، من الذي يُشبه أباه، أهو الولد أم البنت؟ وقد أصبحتُ شبهُ مُتأكّدة، بأن أولادك لن يُقبلوا عليّ، بعد أن وُلدوا وعاشوا في أحضان جدّتهم لأمّهم.

ردّ عليها ابنها وقال: كنتم قديماً يا أمي تغنون في (صحجاتكم) الليلية: واللي بحبك بيجيك على القدم ماشياً. أما أنتِ يا والدتي فكنت قد نفذتِ قرار الوالد المُجحف في حقي، ولم تحضري عندنا ولا مرّة، بعكس حماتي، أطال الله في عمرها، فما أن علمت بقرار والدي المُجحف بحقي، لم تفارقنا لا في الليل ولا في النهار، كي تعوضنا عن ما فقدناه من حنان الأم والأب، ودائماً تقول عن نفسها، أنها حصلت على ولد وأحفاد دون تعب، أما أنت يا أماه، فتنازلت عن ابنك وأولاده لزوجته وأمّها بكلّ سُهولة ويسر.

سكتت الأم، ولم تجب ابنها على ما قاله لها، لكنها في النهاية تبقى أمّاً، حتى لو عقّها ولدها، ومن يدور في فلكه بعد الزواج، لكن كلامه هذا ترك أثراً في نفسها، فقد حرّك في داخلها مشاعر الأمومة، والحنين إلى الأحفاد، وتغلبت هذه المشاعر على كل هذه المخاوف والهواجس، التي كان قد سبّبها لها زوجها، عندما اتخذ قراره الصعب، بطرد ابنها من بيتها، فقرّرت أن تزور ابنها في الخفاء، ودون علم زوجها.

وفي صباح أحد الأيام، استأذنت الأم زوجها، بعد أن قدمت له كل مستلزماته، التي قد يحتاجها في غيابها، كي تذهب إلى السوق، لشراء بعض الحاجات الضرورية، فأذن لها زوجها، لكنه إشترط عليها أن تعود بسرعة، لأنه مريض، فوافقت زوجته. وعندما وصلت الأم إلى بيت إبنها، وجدته وزوجته قد لبسوا أجمل ما عندهم من ثياب، وكأنهم ينتظرون عزيزاً عليهم، وبعد أن سلّمت على الجميع، وقبل أن تتفحّص وجهي طفليه، لترى من الذي يُشبه أباه منهم، وقبل أن يعرف ابنها شيئاً عن سبب قدومها، قال لها: انتبهي يا أمي إلى الأولاد ساعة من الزمن، كي أذهب مع زوجتي عند طبيبها، الذي له موعد مُسبق معها.

فقالت له أمّه: لا أستطيع يا ولدي، أن أتغيّب عن والدك كثيراً، فهو لا يعلم أنني سأزورك في بيتك، ولو أنه علم بذلك، لما كنت قد أتيت، فأنت تعرف رأيه في هذا الموضوع يا بني، فقال لها إبنها: ليس الوقت يا أمّي وقت عتاب الآن، ويُمكنك تأجيله، أما أنا يا أمي يا حبيبتي، فلن أغيب عنك أكثر من ساعة، وما عليك إلا أن تنتبهي للولد، فهو يُشبهني وأنا صغير، أمّا البنت فهي تشبه جدتها لأمّها، إذا أخذت ما تريد سكتت، أما إذا لم تحصل على ما تريد، فهي على إستعداد أن تحرق الأخضر قبل اليابس. ولم ينتظر الولد تعليق أمه على نصائحه تلك، وغادر هو وزوجته على الفور، قبل أن تراجع أمه نفسها.

ولم تكن الأمّ تعلم أن هذا اليوم، يُصادف عيد زواجهما السادس، وهم بحاجة ماسّة إلى شخص يرعى لهما ولديْهما في غيابهما، كي يحتفلوا بهذه المناسبة العزيزة على قلبيهما، فاعتبروا قدومها في هذه اللحظة بالذات، هبة من السماء، وانطلقا بسرعة البرق إلى المدينة التي كانوا قد تزوّجوا فيها. أما الأمّ فقد كانت تعدّ الثواني قبل الدقائق لوصولهما، ومضت السّاعة التي وعدها فيها ابنها في الوصول، ولم يحضرا، وحلّ الليل ولم يحضرا. لم تذق الأم طعم النوم في تلك الليلة، فهي التي كانت قد تركت زوجها مريضاً في بيته، والأهم من ذلك أنها لم تُخبره شيئاً عن زيارتها لولدها، وبدأت تفكر في الإجابة على أسئلته المُتوقعة عندما تعود إليه.

وبينما هي كذلك، خطر على بالها أسئلة جديدة، إجاباتها أصعب من الأولى بكثير، فماذا حدث للولد وزوجته؟فهل زوجته بخير أم في خطر؟ وهل هي في المستشفى أم عند أهلها؟ وهل حدث لأحدهما مكروه لا قدًر الله؟ أفاقت من كل هذه الأسئلة والأجوبة على صوت حفيدها يبكي، ويُريد أمّه، أما حفيدتها، فتريد أن تشرب حليبها كي تنام ثانية، وأخذا يصرخان معاً، وأصبح الموقف يتطلب منها أن تعيد ذاكرتها إلى الماضي البعيد، وتتذكر كيفية العناية بالأطفال الصغار، بعد أن نسيت التعامل معهم، بعد هذه السنين الطويلة.

قصة عبيطة الحمد لله انه مفيش احد قراءها لانها اولا ما فيش نهاية يعني ردة فعل الوالدة و هيك و الاحداث مو متناسقة
إعجابLiked by 1 person