
وأدخلني حارس الزنزانة حافي القدمين فتذكرت في الحال سيدنا موسى عليه السلام عندما خلع نعليه بالواد المقدس طوى!وتذكرت نفسي عندما دخلت المسجد لأول مرة وقالوا لي: إخلع نعليك وخلعت وصليت وخرجت!لكن هذه المرة تختلف عن مثيلاتها في المرات السابقة قأنا لا أستطيع الخروج ولا أستطيع حتى إسترداد حذائي منهم وما أن دخلت في هذه الزنزانة حتى وجدت كل من فيها بانتظاري على أحر من الجمر.

في الحال تذكرت دخولي على طلابي في المدرسة لأول مرة في بداية كل عام دراسي عندما كنت أصمت ولا أتكلم لمدة لا تزيد عن خمس دقائق لأترك الطلاب يتصرفون على راحتهم كي أستطيع بعدها أن أميز أماكن الشغب المتوقعة وأصحابه وها أنا اليوم أدخل على صف ولكن من نوع آخر في زنزانة وليس في فصل دراسي كما هي العادة يا للهول ماذا سأقول لهم؟ وماذا سيقولون لي يا ترى؟.

أما الزنزانة التي أدخلوني عليها ـ لمن لا يعرفها ـ فهي غرفة كبيرة الحجم عالية السقف تشبه غرف المدرسة إلى حد ما لكنها تمتاز عليها بوجود حمام بداخلها بابه لا يغلق لا من الداخل ولا من الخارج وهذا الحمام يتحدى من يدخله برائحته الكريهة أن يمكث فيه ولو لدقائق معدودة لكنه بالمقابل يغري كل شخص مثقف هوايته المطالعة فحيطانه الأربعة سجلّ كبير مكتوب عليه كل ما جال ويجول في خواطر الراحلين والساكنين في هذا المكان وفوق ذلك فهو مُذيّل بالتواقيع والتواريخ والإهداءات والذكريات.

والزنزانة في حد ذاتها تخلو من الشبابيك إلا من فتحة في أعلى أحد الجدران تشترك مع سقف هذه الغرفة وهذه الفتحة مُسيّجة بقضبان حديدية يغطيها شبك حديدي لكنها مضاءة ــ تمنيت لغرف المدارس أن تضاء بمثل إضاءتها ليلاً ونهاراً ــ كأنها كوكب دُريّ نورها يخطف النوم من العيون وفيها قطع إسفنجية بداخل أكياس مفتوحة من الجانبين لم تر الماء والصابون في حياتها ولو لمرة واحدة حتى بدت لا لون لها تسمى فرشات وقطع إسفنجية أخرى أصغر منها تسمى مخدات ومجموعة أخرى من أوراق لكنها مصنوعة من قماش تسمى بطانيات لا تحمل في طياتها غير رائحة الغبار لمن يريد أن يتغطى بها.

ومن يعش في الزنزانة ولو يوماً واحداً ـ مثلي ـ يفقد آدميته فهو لا يعلم اليوم ولا الشهر ولا السنة التي هو فيها ولا يعود للوقت في حياته أيّ معنى أو قيمة فعنده يتساوى الليل مع النهار فيصبح كالأعمى وما هو بأعمى على عكس سجّانه الذي سينظر إلى ساعته ألف مرة منتظراً انتهاء عمله لأن ضميره يؤنبه طيلة فترة عمله وينتظر انتهائها بفارغ الصبر لأنها تشعره بقلق نفسي نتيجة احتجاز أناس من جنسه وخوفاً من هروب أحدهم من هذه الزنزانة.

أما من هم داخل هذه الزنزانة وأنا منهم فهم لا يسمعون غير أصوات أقدام الشرطة وهي تضرب الأرض عند تغيير شفتهم ومع مرور الوقت سيتعرفون على شخصيات حُرّاسهم من خلال وقع أقدامهم على الأرض وعن نفسي أنا فقد حمدت الله ألف مرة أنني محجوز في أرض إسلامية تقام فيها الصلاة ويرفع فيها الآذان بعد أن إكتشفت فائدة أخرى للآذان غير المناداة للصلاة وهي التعرف على الوقت من خلال رفع الآذان لإقامة الصلوات الخمس في تلك الليلة.

وما أن دخلت الزنزانة حتى استقبلني على الفور خمسة من الشباب نصف عراة كانوا نياماً فأيقظهم ذلك الشرطي عندما أدخل مفتاحه في قفل باب زنزانتهم ليدخلني عليهم كي أكون سادسهم وفتحُ باب الزنزانة لمن هم بداخلها يعني الشئ الكثير لهم ـ بعد أن جربت ـ فهو قد يعني أن شيئأ ما يحدث الآن حولهم وعليهم رؤيته وهذا يعني أن هناك قادم جديد قد يحمل معه لهم ما هو ممنوع عنهم في داخل هذه الزنزانة.

وقد يعني أنهم سيسمعون قصة جديدة لتضاف إلى قصصهم للتخفيف من مصائبهم على مبدأ أن من يسمع مصيبة غيره تهون عليه مصيبته وقد يعني غياب ليلة أخرى من ليالي الانتظار الطويلة المملة المتبقية لهم في هذه الزنزانة المشؤومة وقد يعني خروج أحدهم من هذه الزنزانة ليُحمّلوه رسائل شفوية لأهلهم وأقربائهم بعد أن نسيهم البعض منهم أو تناسوهم في هذا المكان وقد يعني أن يخرج أحدهم إلى المحكمة ليحاكم ويذهب بعدها إلى السجن وقد يعني خروج أحدهم إلى مكتب المحافظ ليحاكم ويحكم ويدخل السجن الذي هو أفضل ألف مرة من الإقامة في هذه الزنزانة.

لكنني عندما دخلت الزنزانة واستقبلني كل من فيها دُهشوا جميعاً من كبر سني فأنا أكبر من آبائهم سناً مما جعلهم يحترمونني فأجلسوني قبل أن يجلسوا وسألوني عن مشكلتي التي ألحقتني بهم في آخر هذا الليل فلم أستطع أن أسكت دون أن أتكلم كما كنت أفعل مع الطلبة في المدرسة فقلت لهم: أحضرتني الشرطة إلى هنا بحجة أنني مطلوب لديهم في قضية لا أعرفها حيث كانت قد حدثت عام 1997 فقالوا لي بصوت واحد: بسيطة يا حاج وزاد أحدهم بأن قال: هل كنت قد تكفلت أحداً في هذا العام؟ قلت له: لا وقال آخر: هل عليك رسوم للحكومة ولم تدفعها؟ قلت له: لا فأنا ملتزم بدفع ما يطلب مني قبل الأوان.

وسأل آخر: ولكن لم تقل لنا يا حاج شيئاً عن صنعتك فما هي صنعتك؟ قلت له: معلم مدرسة فاستهجن الشباب ـ ولم تستهجن الشرطة ـ وقالوا كلهم بصوت واحد: كلها دقائق معدودة أستاذنا الكريم وستخرج فهم (الشرطة) لا يعرفون أنك معلم مدرسة وعندما يعرفون ذلك يطلقوا سراحك في الحال وبدأ كل واحد منهم يحملني رسائل شفوية لأقوم بتبليغها إلى أهله وأقاربه.

وقال أحدهم: أتدخن يا حاج؟ قلت له: نعم أدخن فتجمعوا حولي وقالوا بصوت واحد: من شان الله يا حاج سيجارة لكل منا فقلت لهم: لقد أخذ الشرطي مني سجائري قبل أن أدخل عليكم بقليل فقال أحدهم: أرجوك يا حاج أن تطلب لنا منهم سجاير من سجايرك فقلت لهم: كرامتي لا تسمح لي بذلك فأنا لن أطلب ممن أخذ مني شيئاً بالقوة أن يعطيني جزءاً منه بعد ترج واسترحام.

فما كان من أحدهم إلا أن وقف وسار على قدميه ووضع فمه على شباك باب الزنزانة ليكون صوته منخفضاً بعض الشيء وقال للشرطي دون أن يراه: سيدي من شان الله سيجارة مولعة فحضر الشرطي على الفور ونفى وجود السجائر بحوزته فقال له: إنك للتوْ كنت قد أخذت من الحاج سجائره وولاعته فما كان من الشرطي إلا أن ذهب وأحضر له ـ من علبة سجائري ـ خمسة سجائر ونحن في الزنزانة ستة أشخاص فأعطوني واحدة منها واشتركوا فيما تبقى.

جلست على إحدى قطع الإسفنج وأسندت ظهري إلى الحائط ومددت أرجلي مستقيمة وبدأت أسمع لهم فقال أكبرهم سناً بعد أن عرفني بنفسه: أنا متزوج من زوجتين ولي من كل واحدة خمسة أولاد وأعمل سائقاً على جرافة وأنا مريض ومعي أوراق تثبت نوع مرضي ولا أستطيع الصيام فرآني شرطي ـ بيننا وبينهم عداوة ـ وأنا أدخن في جرافتي أثناء عملي اليومي وأحضرني معه للمخفر فأودعوني الزنزانة ليحكمني المحافظ وأنا الآن في انتظار حكمه غداً وأخذ في لوم نفسه على القدوم مع الشرطي.

فقال له أحدهم: اعترف بأنك غبياً إذ كان عليك أن تهرب من ذاك الشرطي فرد عليه قائلا: أنا لست بغبي لكنني كنت معتمداً على التقارير الطبية التي بجعبتي وخلال سرد قصته لي قام أحدهم وبدأ يمشي من أول الزنزانة إلى آخرها ثم يعود وهو يكلم نفسه دون أن يتأثر بوجودنا فتابع سائق الجرافة كلامه لي وقال: هذا الأخ انشطب في عقله فلا تفكر أن المكوث في الزنزانة شيْ سهل وعرفني على بقية زملائي الجدد.

لم آكل ولم أشرب طيلة فترة إقامتي في هذه الزنزانة وذلك احتجاجاً مني على ما حصل لي في هذا اليوم العجيب أولاً ولأنني أنتظر الخروج الذي أوهمني به النزلاء ثانياً حتى أن أحدهم كان قد عرض عليّ الماء لأشرب ولم أشرب وعرض عليّ آخر أن يشاركني في طعامه فشكرته ورفضت على أمل أننا نعيش في شهر رمضان المبارك والسحور قادم لا محالة فليس معقولاً أن يتسحر الشرطي ـ حارس الزنزانة ـ ويترك من يحرسهم دون سحور وهذا يخالف التعاليم الإسلامية لا سيما ونحن نعيش في شهر رمضان شهر الخير والبركات كما يقولون.

لم أكن أعلم أن من يقيم في الزنزانة ليس له وجبة سحور لجهلي المطبق في الأمور الشُرطيّة بينما زملائي الآخرين من المقيمين في الزنزانة يعلمون ذلك وبدأت أنتظر طعام السحور وحدي لكنه لم يأت فنام الجميع وبقيت أنتظر لحظة خروجي من هذه الزنزانة حتى غلبني النعاس لكنني لم أنم فكيف لي أن أنام في زنزانة ومعي مبلغ من المال لا يقل عن ٢٠٠ دينار؟ لهذا نمت على بطني ووضعت رأسي فوق يديّ لأنني لا أريد أن أستخدم المخدة وبقيت كذلك إلى أن صحوت نتيجة وجع في يداي بعدها بقيت صاحياً حتى الصباح.

وما أن بدأت تتحرك أقدام الشرطة في الصباح حتى عرفت أن يوم الجمعة ـ سيد الأيام ـ قد مضى وجاء سبتها وما هي إلا دقائق حتى فتح باب الزنزانة فدخل الشرطي وطلب أسماء المقيمين كلهم إلا أنا للمثول أمام المحافظ وبقيت وحدي في الزنزانة واحترت فيما سأعمله فبدأت أراقب حركة أشعة الشمس وهي تدخل عليّ من الطاقة الموجودة في أعلى الزنزانة فكانت تنعكس على جدرانها وترسم أشكالا هندسية إلى أن اختفت.
