
كانت الأحداث التي وقعت في هذا العام أكبر مني كثيراً لدرجة أنها أنستني أن لي يداً مكسورة وهي لم تجبر بعد وأنست أمي كذلك أين؟وكيف؟وإلى متى؟ سيعيش شاب صغير مثلي غريباً عن بلده وأهله وبيته؟فبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون بدأت أفكر متسائلاً:هل أستطيع أن أستأجر غرفة وأعيش بها وحدي وأنا في مثل هذه السن؟وإذا إستطعت من أين لي أجرتها؟فصديق والدي الذي وضع لي عنده والدي فلوساً قبل وفاته لتعليمي وحرصاً منه على مصلحتي فقد حدد لي مصروفي الشهري بخمسة دنانير في الشهر الواحد فقط فما هو الحل إذن؟.
ومما زاد الطين بلة أنه وفي خضم هذه الأحداث الكبيرة جاء رجل ـ يدّعي محبتنا ـ كان قد علم بوفاة والدي يسأل عني ليسترد مني عشرة دنانير كان أخوه قد أرسلها له مع والدي قبل أن يستشهد لكن من سأله عني أسمعه ما لا يُحب وعاد دون أن يراني ومن العجيب أن هذا الرجل يعرض نفسه حتى الآن بأنه من أعز الأحباب ولا يعلم أنني أعلم ما كان قد فعله في الماضي البعيد القريب.

أما أخي الذي كان متواجداً في الكويت فكانت ظروفه المادية صعبة ولن يستطيع مساعدتي أما إبن عمي الذي يعيش في مدينة الزرقاء فهو متزوج من إمرأة لا تكبرني إلا بضع سنين لكنها بالمقابل تعهدت لي أن تكون لي أماً ثانية في غياب أمي الأولى فهي تسكن مع زوجها وأولادها في غرفة واحدة وخارجها حوش صغير ومطبخ أصغر فأفرغت المطبخ من محتوياته ووضعت لي فيه سريراً فقط لأنه لا يتسع لغيره وقالت:تنام هنا وتعيش معنا إلى أن ييسر الله أمرك.

وفي هذه الأثناء بدأت أنتظر العودة إلى الأهل والوطن لكنها بدت كأنها بعيدة المنال وفتحت المدارس أبوابها وإحترت في أمري أأدرس أم لا أدرس؟لأن التحرير قادم لا محالة وكلي أمل في أن أعود إلى مدرسة الصلاحية الثانوية في مدينة نابلس التي كنت أدرس فيها قبل الحرب وانتظرت أكثر إلى أن قال لي أحدهم:سجل في المدرسة هنا وادرس وعندما يأتي التحرير يكون لكل حادثة حديث وذهبت إلى المدرسة كي أسجل فيها لكنهم طلبوا مني آخر شهادة مدرسية لي في المدرسة التي كنت بها وهي ليست معي.

أشار عليّ أحدهم أن أذهب إلى وزارة التربية في عمان وأستخرج منها بدل فاقد وفعلاً إستخرجتها وبعد أن ضاقت الأردن بسكانها فتحوا لنا مدارس مسائية لحل المشكلة وسجلت في مدرسة الزرقاء الثانوية المسائية وإنقلبت حياتي رأساً على عقب وأصبحت أنام في الصباح وأذهب إلى المدرسة في المساء وهذا شيء جديد لم أعتد عليه في حياتي السابقة وعليّ أن أتكيف معه لكن ما أدهشني وحيرني في ذلك الوقت أن طلاب الفترة الصباحية كانوا يستهزؤون منا عند الدخول والخروج من مدرستهم ويصيحون علينا عند رؤيتنا: نازحين… نازحين… نازحين والكثير منهم كانوا قبلنا من اللاجئين.

إنتظمت في الدراسة لكن البيئة التي كانت قد فرضت عليّ لم تكن بيئة دراسية ولم تكن تساعد على الدراسة بل هي بيئة سمر وسهر ولعب شدة فكان أقاربي بعد أن ينتهوا من أعمالهم يتحلقون حول طاولة الشدة ويطلبونني لأكون رابعهم وإذا امتنعت عن الحضور يأتون هم إلى عندي ويسحبونني غصباً عني لأكون رابعهم على طاولة الهاند حسبما تقتضي قواعد اللعبة.

وكان لأبناء الشهداء بعد هذه الحرب في عمان وضع خاص فحاولت أن أكون منهم لكن محاولاتي كلها باءت بالفشل لأن والدي لم يكن عسكرياً فلم يعترفوا به كشهيد فنصحني أحد المعارف أن أذهب إلى وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل وذهبت وهناك حاولوا أن يبحثوا لي عن عمل في مخبز لتوصيل الخبز إلى البيوت لكنهم لم يجدوا مخبزاً بحاجة لأمثالي بعد أن إمتلأت الشوارع بالرجال الطالبين للعمل وعدت بخفي حنين.
