
كان جدي لأمي عيسى موسى عبدالفتاح مختار سابق لقريتنا خربة قيس وكانت الناس تأخذ برأيه في السرّاء والضرّاء وكانت أمي بشكل خاص تلجأ له في الملمات الصعبة وتستمع لرأيه في الأزمات في غياب والدي لكنه كبر في السن وضعف بصره وأصبح حبيس بيته ولم يعد قادراً على مساعدتنا كما كان في السابق لكنه كان يوجهنا ويرسم لنا طريقنا كلما احتجنا إليه وفي يوم من الأيام أبلغني أحد إخواني الأصغر مني سناً بأن جدي لأمي يطلبني في الحال فذهبت إليه مسرعاً فوجدت أمي تجلس بجواره وبعد السلام قال لي: أيعجبك ما أنتم به يا جدي؟ ساعة تبكون وساعة تضحكون!؟.

قلت: وما الذي أستطيع أن أفعله يا جدي؟ قال: تستطيع أن تسافر إلى عمّان فالطريق إليها أصبح آمناً في هذه الأيام وتستوضح لنا صدق الخبر من عدمه فإذا كان هذا الخبر كاذباً فإنك ستلتقي بوالدك هناك وتحضرا معاً غانمين سالمين إن شاء الله وإذا كان هذا الخبر صادقاً فكل نفس ذائقة الموت وعليك أن تتحمل الإقامة الجبرية هناك لشهر أو شهرين على الأكثر لتعود مع العائدين إلى فلسطين بعد أن يحررها سيادة الرئيس جمال عبدالناصر فهو الذي وعدنا بالخلاص والذي أعلمه أن وعد الحرّ دين عليه ولم تعترض أمي على ما قاله جدي مما يعني أنها موافقة على ما قال فقلت لهم: لكنني لا أملك جواز سفر للقيام بهذه الرحلة فكيف لي أن أدخل الأردن وأنا بدون أوراق رسمية؟.
قال: إذهب غداً إلى أبو فاروق رئيس بلدية سلفيت ومعك صورة شخصية وهو يعطيك هوية شخصية كي تسافر بها وفي الصباح حملت صورة شخصية وذهبت إلى أبو فاروق الذي كان يعلم بكل تفاصيل الخبر وقدم لي كافة التسهيلات وأخرج لي بطاقة هوية من البلدية التي لا شأن لها في هذه الأمور وكانت الحدود بين الضفتين مغلقة في ذلك الوقت لكن ذلك لم يمنع من وجود أناس مغامرين منهم أبو تيسير والذي يملك شاحنة يستعملها في نقل الأشحاص والبضائع بين الضفتين وكان أبو تيسير ينقل بجانبه راكبين في كل رحلة وعلى من يريد السفر معه أن يحجز عنده سلفاً وعندما يتوفر له حمل وراكبان يغادر بهما إلى عمان.

وبعد أن حصلت على الهوية حجزت مقعدي مع أبو تيسير صاحب الشاحنة فقال لي: غداً صباحاً عليك أن تحضر يا شاطر لكن مبكراً وفي صباح اليوم التالي صحوت مبكراً وإتجهت إلى بيت أبو تيسير للسفر معه إلى عمان ولم أذكر أنني كنت قد ودّعت أحداً من أهلي أو أصدقائي لأنهم كانوا قد بسّطوا لي الموضوع كثيراً لا بل أفهموني أنني سأقوم بنزهة قصيرة وأنا بالتالي كنت قد بسّطته على نفسي أكثر وعندما وصلت بيت أبو تيسير وجدته قد حمّل شاحنته وينتظرني ومعه الراكب الذي سيسافر معنا أما هذا الراكب فكان شاباً من قرية عمورية المجاورة لقريتنا إسمه صالح يعمل في الكويت ويريد العودة إليها ثانية بعد أن إطمأن على أبويه.

وانطلقت الشاحنة متجهة إلى عمان وما أن وصلنا نهر الأردن حتى بدأ السائق أبو تيسير يبحث عن مخاضة تخلو من اليهود ليقطع النهر منها بسيارته فلم يجد فهم بعد أن علموا بأن الناس بدأت تسافر عن طريق هذه المخاضات نصبوا عند كل مخاضة منها نقطة تفتيش لهم فقال بعد أن أهلكه البحث والتعب: لا مفر أمامنا إذا أردنا مواصلة المشوار إلا المرور من نقطة تفتيش يهودية والإعتماد على حظنا إما أن يسمحوا لنا بالسفر أو يعيدونا إلى بيوتنا وفي كل خير وأضاف قائلا: يجب أن نغامر وتوجه إلى إحدى نقط التفتيش بعد أن إستعاذ بالله من الشيطان الرجيم.

وهناك أنزلونا من الشاحنة وتفقدوا أوراقنا وطلبوا منا التوقيع على ورقة باللغة العبرية لا نعلم محتواها غير أن الجندي الإسرائيلي قال لنا بعربية مكسرة ما مفاده: أننا خرجنا من دولة إسرائيل بإرادتنا دون أن يجبرنا أحد على الخروج وبذلك فأنتم قد أصبحتم بعد التوقيع لا نملكون شيئاً فيها ووضع رؤوس أصابعنا في محبرة وبصمنا على هذه الورقة بأصابعنا العشرة وبعدها سمحوا لنا بالمرور ومن هناك قطعنا النهر إلى الضفة الشرقية.

في الطريق نفذ منا الماء وإذا بالراكب الثاني مصاب بمرض في الكلى وعندما نقص منسوب الماء في جسمه جاءه مغص شديد وبدأ يتألم ويصرخ من شدة الألم عندها تمدد بيني وبين السائق وألقى بثقله كاملاً على جسمي كي يسمح للسائق بالحركة فجعلني ملتصقاً بباب السيارة لا بل كلما إشتد عليه المغص يقوم بدفعي أكثر نحو الباب وبقينا على هذا الحال إلى أن وصلنا عين ماء في سفح جبل لم أعرف لها إسماً في ذلك الوقت لكنني عرفتها فيما بعد وهي العدسية وعندها أوقف السائق شاحنته ونزلنا وشربنا وغسلنا وجوهنا وبعد أن شرب صاحبنا خفت عليه أوجاعه أما أنا فلدعني طعم الماء وأحسست بأن الماء هنا طعمه قد تغيّر.

وكان المتواجدون في عمان من أهل سلفيت وقراها يتجمعون في بقالة أبو نجيب التي كانت تقع في جبل عمان وعندما وصلنا مدينة عمان ليلاً ذهب أبو تيسير إلى تلك البقالة ليستطلع من صاحبها عن ما سوف يحمله معه من أغراض وركاب أثناء عودته إلى الضفة الغربية وهناك غادر الشاب الذي كان معنا ليواصل رحلته إلى الكويت وتركنا أنا والسائق في البقالة وبعد أن تفاهم السائق أبو تيسير مع صاحب هذه البقالة أبو نجيب أخذني أبو تيسير وحدي إلى مدينة الزرقاء.
