الخامس من حزيران عام 1967


untitled43
ومشينا على الأقدام من خربة قيس إلى عجول 

بتاريخ 3/6/1967 حضرت خالتي المتزوجة في قرية عجول لزيارتنا في قريتنا خربة قيس وكنت وقتها قد أنهيت للتو دراسة الصف الحادي عشر من مدرسة الصلاحية الثانوية في مدينة نابلس فهي المدرسة الوحيدة في ذلك الوقت التي كانت تدرس الفرع العلمي في محافظة نابلس وعرضت عليّ أن أعيش معهم في العطلة الصيفية مقابل تدريس ابنها الأكبر مادة الرياضيات للسنة القادمة فأنا أسبقه بعامين دراسيين وبعد موافقة أمي ذهبت معها أما لماذا موافقة أمي؟ فقد كان والدي يعمل في الكويت ومعه أخي الأكبر أيضاً ولي أخت واحدة أكبر مني وأخَوان أصغر مني سناً. 

ajjul-44980
قرية عجول 

بعد ظهر يوم  4 / 6/ 1967 توجهت مع خالتي إلى بلدتهم عجول مشياً على الأقدام وعندما وصلنا لم يعرنا زوجها الإنتباه الكافي لأنه كان قلقاً يتابع الأخبار من خلال مذياع صغير يحمله بيده لكنه لا يكتفي بمحطة واحدة بل كان يحرك المؤشر ذات اليمين وذات الشمال لاستقبال مزيد من الأخبار العاجلة التي كانت ترد تباعاً وإلى مزيد من التحليلات السياسية التي كنت أجهلها.

untitled44
مذيع صوت العرب أحمد سعيد

وفي صباح اليوم التالي الأسود صعدنا إلى سطح البيت فوجدتهم قد جهزوا لنا معرّشاً للدراسة فيه وجلسنا وبدأنا الدراسة وإذا بزوج خالتي قادم ومعه جهاز الراديو ليزيد من عدد المحطات التي تزوده بالأخبار وإذا بالحرب قد بدأت وبدأ معها تساقط طائرات العدو الواحدة تلو الأخرى على لسان مذيع صوت العرب أحمد سعيد الذي كان يطلب من السمك أن يجوع كي يطعمه من لحوم العدو فعلقت أنا على الفور: خلينا نشبع برتقال أي بعد رجوع يافا.

???????????????????????????????
مدينة سلفيت

أما خالتي عندما سمعت بوقوع الحرب لم يتبادر إلى ذهنها إلا أنا فقالت لزوجها: عليك تسليمه إلى أهله سالماً في الحال فقال لها: غداً صباحاً أعيده إلى أهله وقبل أن ننام وإذا بضوء يخطف الأبصار يضيء قرية عجول بكاملها ويحول ليلها إلى نهار ثم تلاه صوت انفجار رهيب ذكرني بصوت البارود الذي كانوا يقطعون به الحجارة من المحاجر وفي الصباح علمنا أن العدو ضرب بلدة سلفيت بثلاث صواريخ فقلت معلقاً: فيا للهول ضربوا سلفيت وأضيئت عجول التي تبعد عنها حوالي 8 كم فماذا حصل إذن في سلفيت نفسها؟.

imagescasjtrux
في الصباح الباكر ركب زوج خالتي بغلته وأركبني ورائه 

في الصباح الباكر ركب زوج خالتي بغلته وأركبني وراءه وكانت بغلته هذه من النوع الضخم والحجم الكبير وكان حجمها أكبر من فتحة أرجلي بكثير فشعرت بتفسخ فيهما وأصبحت أنتظر انشطاري إلى نصفين لكنني رغم كل هذا لم أشتك ولم أقل له شيئاً عن معاناتي لأن البديل أن أمشي على قدماي مما يطيل من زمن توصيلي فهو يريد توصيلي بسرعة والعودة إلى أبنائه وزوجته وبعد أن وصلنا إلى قريتنا قال لأمي:استلمي الأمانة فأختك لم تفكر بأحد غيره وقفل راجعاً دون أن يشرب ولو كأساً من الماء.

6e3b8a3c-285b-4d83-858a-075f76230349
الحفرة التي أحدثها الصاروخ الثاني 

ما أن وصلت قريتنا حتى أبلغوني عن ضربة سلفيت فواصلت المسير إليها لأرى ما حدث بنفسي وإذا بالصاروخ الأول قد سقط بالحرش الذي يحيط بالمدرسة الثانوية فيها وجرد أشجار الصنوبر والسرو من أوراقها وأغصانها وقشورها وأصبحت كل شجرة منها كعمود التلفون أما الثاني فحفر بالأرض حفرة تزيد عن العشرة أمتار وعمقها يقرب من ثلاثة أمتار خارج الحرش وأما الثالث فلم ينفجر فأشبعته مشاهدة وتفحصاً من جميع الجهات لكنني لم أجرؤ على الإقتراب منه أبداً.

small-old-tv1
حملوا المسؤولية كاملة لجهاز التلفاز 

أما لماذا ضربوا سلفيت دون غيرها؟فقد كانوا قبل الحرب قد طلبوا من الناس أن يخفوا أضوية منازلهم أو يزرقوها أي يلونوها بالأزرق كي لا تراهم طائرات العدو وامتثل الجميع لهذه الأوامر إلا شخصاً واحداً كان يشاهد التلفاز في بيته فرأته الطائرة فقصفته بالصواريخ الثلاثة هذا هو التفسير الذي تبادر إلى أذهان الناس في ذلك الوقت فحملوا صاحب التلفاز المسؤولية الكاملة عن ذلك لكنني وجدت من الناس من حمل المسؤولية كاملة لجهاز التلفاز نفسه وأضافوا هذا العيب الجديد لعيوبه القديمة وزادوا يذلك من مطالبتهم بمقاطعة هذا الجهاز الذي لم يكتف بتخريب البيوت فقط بل ساعد على هدمها.

BenQ Corporation
بجانب هذه الصبرة كنا نجلس على البيادر

بعد ذلك عدت إلى قريتي بسرعة وذهبت إلى المكان الذي يلتقي فيه رجال القرية البيادر كي أسمع المزيد من الأخبار وما أن جلست معهم وإذا برجلين مسلحين يقتربان من المكان فتحلقنا حولهم نريد سماع آخر الأخبار منهم وإذا بأحدهم يقول بلهجة مدنية: الله يزلك با أبو رقيبة أما الآخر فقال: لقد سقطت البلاد وعليكم أن ترفعوا الرايات البيضاء فوق أسطح منازلكم كي تضمنوا سلامتكم. 

imgid147988
الفرسان 

تحمس القوم واتهموه بأنه من الطابور الخامس وتحمس أحد الواقفين أكثر من غيره وطلب منا التحفظ عليهم ريثما يذهب إلى مخفر سلفيت للتبليغ عنهم ويأتي بالفرسان ليقبضوا عليهم وذهب وبدأنا ننتظر قدوم الفرسان على أحر من الجمر وخلال هذه الفترة انقسم أهل القرية إلى قسمين: قسم يقول عنهم بأنهم صادقون وعلى سكان القرية إخفاء ما عندهم من سلاح والقسم الآخر شكك في مصداقيتهم وأخذوا ينتظرون قدوم الفرسان لاعتقالهم. 

m1-garand-rifle
بارةدة إنحليزية 

واختلف الناس أكثر على مفهوم كلمة سلاح فمنهم من قال أن القرية تخلو من السلاح إلا من بارودة فلان الإنجليزية وما عليكم إلا أن تبلغوه كي يخفيها وقال آخر: المسدس أيضاً سلاح وعليكم أن تبلغوا فلاناً كي يخفي مسدسه وسأل آخر عن خرطوش الصيد إن كان يعتبر سلاحاً أم لا؟. 

untitled45
خرطوش الصيد

وهنا بدأ الناس يختلفون أكثر فأكثر فقال أحدهم: إن الخرطوش لا يقتل إنساناً لهذا فهو ليس بسلاح فأجابه آخر: وكيف قتل فلان إذن؟ وكيف خرجت أمعاء علان من بطنه؟ أليس بخرطوش صيد؟ إنه سلاح ويجب أن تخفوه عن عيون العدو وقال آخر: البلكية ليست سلاحاً لأنها تصدر صوتاً فقط وهنا سألت من أقف بجانبه عن هذه البلكية فقال لي: عندما كانت تشتد النزاعات بيننا كانت لا تنفض إلا بقعقعة السلاح فاخترعوها ليوهموا الطرف الآخر بوجود هذا السلاح. 

imagescaelczce
مدينة إربد

وبينما نحن في هذا الحوار وإذا بخمسة جنود مدججين بأسلحتهم يقتربون من بيت قريب يجلس أمامه شيخ كبير استقبلهم ذلك الشيخ وأجلسهم تحت شجرة التوت التي تقع في فناء بيته فأسرعت باتجاههم وألقيت عليهم السلام فلم يرد عليّ أحد منهم من شدة القلق الذي كان بداخلهم لكنني سمعتهم وهم يتوسلون لذلك الشيخ قائلين: خذ ياشيخ أسلحتنا وأعطنا لباساً مدنياً نحن إخوان لكم من مدينة إربد وإذا عادت بنا الأيام أعطيتنا سلاحنا وأعدنا إليك ملابسك.

imagesCAUZJQ0T
إذا غسلت زوجتي ملابسي أبقى في البيت حتى تجف

رد عليهم الشيخ وقال: من أين لي يا حسرة بخمسة غيارات وأنا عندما تغسل زوجتي ملابسي أبقى في البيت حتى تجف لأرتديها ثانية وصاح الشيخ بمن تجمعوا عنده قائلا: ليذهب كل واحد فيكم إلى بيته ويأتي بقطعة ملابس له أو لأبيه أو لأخيه الأكبر وفي لمح البصر تجمعت قطع الملابس وتخاطفها الجنود وارتدوها وتركوا لباسهم وأسلحتهم عند الشيخ وسمعتهم يقولون للشيخ: هذا استن وهذا ابرن وهذه انجليزية وهذه ذخيرة وعلى الفور قام الشبخ بإخفاءها في حفرة بجانب بيته.

73815594
شجرة في عصيرة الشمالية 

بدأت أشعر بالجوع فتحركت مسرعاً باتجاه البيت وفي الطريق قابلني شرطي بالزي الكامل للشرطة ومعه بندقيته وطلب مني أن أدبر له ملابس مدنية ليتخفى بها ومن ثم أدله على الطريق الذي يوصله إلى بلده (عصيرة الشمالية) فتحمست وأعطيته قميصاً وبنطالا من ملابس أخي الأكبر وأوصلته إلى مشارف بلدة سلفيت وفي الطريق خبأنا معاً سلاحه وذهب إلى بلده. 

download-1-copy
نابلس 

ومن غرائب الصدف أنني بعد شهرين من هذه الحرب اللعينة كنت قد ذهبت إلى مدينة نابلس لأمر من الأمور التي كانت تهمني فالتقيت به شرطياً يعمل مع الاحتلال الصهيوني بعد أن استبدلوا سلاحه بعصاة وما أن رآني حتى عرفني في الحال وطلب مني (الأمانة) أي سلاحه الذي كان قد خبأه عندي فقلت له: تعال أنت إلى عندي وخذ أمانتك بيدك وحضر واسترد أمانته دون أن يعيد لي ملابس أخي.

مشاهد من ذاكرة الرحيل

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s