
بتاريخ 3/6/1967 حضرت خالتي المتزوجة في قرية عجول لزيارتنا في قريتنا خربة قيس وكنت وقتها قد أنهيت للتو دراسة الصف الحادي عشر من مدرسة الصلاحية الثانوية في مدينة نابلس فهي المدرسة الوحيدة في ذلك الوقت التي كانت تدرس الفرع العلمي في محافظة نابلس وعرضت عليّ أن أعيش معهم في العطلة الصيفية مقابل تدريس ابنها الأكبر مادة الرياضيات للسنة القادمة فأنا أسبقه بعامين دراسيين وبعد موافقة أمي ذهبت معها أما لماذا موافقة أمي؟ فقد كان والدي يعمل في الكويت ومعه أخي الأكبر أيضاً ولي أخت واحدة أكبر مني وأخَوان أصغر مني سناً.

بعد ظهر يوم 4 / 6/ 1967 توجهت مع خالتي إلى بلدتهم عجول مشياً على الأقدام وعندما وصلنا لم يعرنا زوجها الإنتباه الكافي لأنه كان قلقاً يتابع الأخبار من خلال مذياع صغير يحمله بيده لكنه لا يكتفي بمحطة واحدة بل كان يحرك المؤشر ذات اليمين وذات الشمال لاستقبال مزيد من الأخبار العاجلة التي كانت ترد تباعاً وإلى مزيد من التحليلات السياسية التي كنت أجهلها.

وفي صباح اليوم التالي الأسود صعدنا إلى سطح البيت فوجدتهم قد جهزوا لنا معرّشاً للدراسة فيه وجلسنا وبدأنا الدراسة وإذا بزوج خالتي قادم ومعه جهاز الراديو ليزيد من عدد المحطات التي تزوده بالأخبار وإذا بالحرب قد بدأت وبدأ معها تساقط طائرات العدو الواحدة تلو الأخرى على لسان مذيع صوت العرب أحمد سعيد الذي كان يطلب من السمك أن يجوع كي يطعمه من لحوم العدو فعلقت أنا على الفور: خلينا نشبع برتقال أي بعد رجوع يافا.

أما خالتي عندما سمعت بوقوع الحرب لم يتبادر إلى ذهنها إلا أنا فقالت لزوجها: عليك تسليمه إلى أهله سالماً في الحال فقال لها: غداً صباحاً أعيده إلى أهله وقبل أن ننام وإذا بضوء يخطف الأبصار يضيء قرية عجول بكاملها ويحول ليلها إلى نهار ثم تلاه صوت انفجار رهيب ذكرني بصوت البارود الذي كانوا يقطعون به الحجارة من المحاجر وفي الصباح علمنا أن العدو ضرب بلدة سلفيت بثلاث صواريخ فقلت معلقاً: فيا للهول ضربوا سلفيت وأضيئت عجول التي تبعد عنها حوالي 8 كم فماذا حصل إذن في سلفيت نفسها؟.

في الصباح الباكر ركب زوج خالتي بغلته وأركبني وراءه وكانت بغلته هذه من النوع الضخم والحجم الكبير وكان حجمها أكبر من فتحة أرجلي بكثير فشعرت بتفسخ فيهما وأصبحت أنتظر انشطاري إلى نصفين لكنني رغم كل هذا لم أشتك ولم أقل له شيئاً عن معاناتي لأن البديل أن أمشي على قدماي مما يطيل من زمن توصيلي فهو يريد توصيلي بسرعة والعودة إلى أبنائه وزوجته وبعد أن وصلنا إلى قريتنا قال لأمي:استلمي الأمانة فأختك لم تفكر بأحد غيره وقفل راجعاً دون أن يشرب ولو كأساً من الماء.

ما أن وصلت قريتنا حتى أبلغوني عن ضربة سلفيت فواصلت المسير إليها لأرى ما حدث بنفسي وإذا بالصاروخ الأول قد سقط بالحرش الذي يحيط بالمدرسة الثانوية فيها وجرد أشجار الصنوبر والسرو من أوراقها وأغصانها وقشورها وأصبحت كل شجرة منها كعمود التلفون أما الثاني فحفر بالأرض حفرة تزيد عن العشرة أمتار وعمقها يقرب من ثلاثة أمتار خارج الحرش وأما الثالث فلم ينفجر فأشبعته مشاهدة وتفحصاً من جميع الجهات لكنني لم أجرؤ على الإقتراب منه أبداً.

أما لماذا ضربوا سلفيت دون غيرها؟فقد كانوا قبل الحرب قد طلبوا من الناس أن يخفوا أضوية منازلهم أو يزرقوها أي يلونوها بالأزرق كي لا تراهم طائرات العدو وامتثل الجميع لهذه الأوامر إلا شخصاً واحداً كان يشاهد التلفاز في بيته فرأته الطائرة فقصفته بالصواريخ الثلاثة هذا هو التفسير الذي تبادر إلى أذهان الناس في ذلك الوقت فحملوا صاحب التلفاز المسؤولية الكاملة عن ذلك لكنني وجدت من الناس من حمل المسؤولية كاملة لجهاز التلفاز نفسه وأضافوا هذا العيب الجديد لعيوبه القديمة وزادوا يذلك من مطالبتهم بمقاطعة هذا الجهاز الذي لم يكتف بتخريب البيوت فقط بل ساعد على هدمها.

بعد ذلك عدت إلى قريتي بسرعة وذهبت إلى المكان الذي يلتقي فيه رجال القرية البيادر كي أسمع المزيد من الأخبار وما أن جلست معهم وإذا برجلين مسلحين يقتربان من المكان فتحلقنا حولهم نريد سماع آخر الأخبار منهم وإذا بأحدهم يقول بلهجة مدنية: الله يزلك با أبو رقيبة أما الآخر فقال: لقد سقطت البلاد وعليكم أن ترفعوا الرايات البيضاء فوق أسطح منازلكم كي تضمنوا سلامتكم.

تحمس القوم واتهموه بأنه من الطابور الخامس وتحمس أحد الواقفين أكثر من غيره وطلب منا التحفظ عليهم ريثما يذهب إلى مخفر سلفيت للتبليغ عنهم ويأتي بالفرسان ليقبضوا عليهم وذهب وبدأنا ننتظر قدوم الفرسان على أحر من الجمر وخلال هذه الفترة انقسم أهل القرية إلى قسمين: قسم يقول عنهم بأنهم صادقون وعلى سكان القرية إخفاء ما عندهم من سلاح والقسم الآخر شكك في مصداقيتهم وأخذوا ينتظرون قدوم الفرسان لاعتقالهم.

واختلف الناس أكثر على مفهوم كلمة سلاح فمنهم من قال أن القرية تخلو من السلاح إلا من بارودة فلان الإنجليزية وما عليكم إلا أن تبلغوه كي يخفيها وقال آخر: المسدس أيضاً سلاح وعليكم أن تبلغوا فلاناً كي يخفي مسدسه وسأل آخر عن خرطوش الصيد إن كان يعتبر سلاحاً أم لا؟.

وهنا بدأ الناس يختلفون أكثر فأكثر فقال أحدهم: إن الخرطوش لا يقتل إنساناً لهذا فهو ليس بسلاح فأجابه آخر: وكيف قتل فلان إذن؟ وكيف خرجت أمعاء علان من بطنه؟ أليس بخرطوش صيد؟ إنه سلاح ويجب أن تخفوه عن عيون العدو وقال آخر: البلكية ليست سلاحاً لأنها تصدر صوتاً فقط وهنا سألت من أقف بجانبه عن هذه البلكية فقال لي: عندما كانت تشتد النزاعات بيننا كانت لا تنفض إلا بقعقعة السلاح فاخترعوها ليوهموا الطرف الآخر بوجود هذا السلاح.

وبينما نحن في هذا الحوار وإذا بخمسة جنود مدججين بأسلحتهم يقتربون من بيت قريب يجلس أمامه شيخ كبير استقبلهم ذلك الشيخ وأجلسهم تحت شجرة التوت التي تقع في فناء بيته فأسرعت باتجاههم وألقيت عليهم السلام فلم يرد عليّ أحد منهم من شدة القلق الذي كان بداخلهم لكنني سمعتهم وهم يتوسلون لذلك الشيخ قائلين: خذ ياشيخ أسلحتنا وأعطنا لباساً مدنياً نحن إخوان لكم من مدينة إربد وإذا عادت بنا الأيام أعطيتنا سلاحنا وأعدنا إليك ملابسك.

رد عليهم الشيخ وقال: من أين لي يا حسرة بخمسة غيارات وأنا عندما تغسل زوجتي ملابسي أبقى في البيت حتى تجف لأرتديها ثانية وصاح الشيخ بمن تجمعوا عنده قائلا: ليذهب كل واحد فيكم إلى بيته ويأتي بقطعة ملابس له أو لأبيه أو لأخيه الأكبر وفي لمح البصر تجمعت قطع الملابس وتخاطفها الجنود وارتدوها وتركوا لباسهم وأسلحتهم عند الشيخ وسمعتهم يقولون للشيخ: هذا استن وهذا ابرن وهذه انجليزية وهذه ذخيرة وعلى الفور قام الشبخ بإخفاءها في حفرة بجانب بيته.

بدأت أشعر بالجوع فتحركت مسرعاً باتجاه البيت وفي الطريق قابلني شرطي بالزي الكامل للشرطة ومعه بندقيته وطلب مني أن أدبر له ملابس مدنية ليتخفى بها ومن ثم أدله على الطريق الذي يوصله إلى بلده (عصيرة الشمالية) فتحمست وأعطيته قميصاً وبنطالا من ملابس أخي الأكبر وأوصلته إلى مشارف بلدة سلفيت وفي الطريق خبأنا معاً سلاحه وذهب إلى بلده.
