
عندما تخرجت من الجامعة، لم أكن أفكر في المكان الذي سأعمل به، ولا بمقدار الراتب الذي سأتقاضاه مقابل ذلك العمل، لأن التعليم كان عندي أمنية وهواية، قبل أن يكون مهنة، زد على ذلك أن حاجتي في ذلك الزمان كانت قليلة، وطلباتي في ذلك الوقت كانت أقل بكثير من هذه الأيام، أما طموحاتي فلم يكن لها سقف محدد، فأنا كنت من جيل مُشبع بالقومية العربية حتى العظم، ومن جيل كان قد تعلم وتربّى على أن بِلَاد العُرب أَوْطَاني مِن الشَّام لبغدان.

لكن وجود أخي الأكبر في دولة الكويت في ذلك الوقت، جعلني أُفضّل الإقامة والعمل في دولة الكويت على غيرها من الدول العربية الأخرى، لا سيما وأن الكويت كانت تُسمي نفسها، والناس تُسميها (بلاد العرب). وما هي إلا سنوات ليست قليلة، حتى بدأت موجة المد القومي في الإنحسار، وظهرت بدلاً منها (موجة) من القطرية والعنصرية، اجتاحت معظم البلاد العربية، ومن ضمنها الكويت، عندها أصبحت أنتظر اليوم الذي أعود فيه إلى وطني، كي أعلم أولاد بلدي.

وجاءت حرب الخليج بخيرها وشرها، وتحققت أمنيتي بالعودة إلى أرض الوطن، وبدأتُ التعليم في بلدي، حيث كنت قد عملت مدرساً فِي مدرسة (خاصة) لمدة خَمْس عَشْرة سَنَة متصلة، تغيرت فيها إدارات كثيرة، لكنني لم أطبّل أو أزمّر لأي من هذه الإدارات، ولم أكن من زُلمها، أو من سدنتها، أو من خدمها، أو من حاشيتها، فهمشوني، وغيبوني، وخيروني بين أن أبقى في مهنة التعليم التي قد حولوها إلى مهزلة، أَو أن أحطم الأمنية، فاخترت (تَحْطِيم الأُمْنِيَّة)، على أن أبقى في المهزلة، عندها هَلَّلَ وَكبّر عبيد (الظلمة).

وخلال هذه السنوات الخمسة عشر، كنت قد وصلت (القمة) في العطاء والبذل والتفاني، بعد أن تراكمت لديّ (خبرات) مختلفة فِي التعليم والتعلم،(وشهد) لي معظم من كنت قد درّستهم من الطلاب بالأمانة والإخلاص، والأداء المتقن في العمل، والخبرة العالية إلا هذه الإدارات المتعاقبة في تلك المدرسة، وعلى إختلاف ألوانها وتوجهاتها، فلم أحصل من أحد منهم حتى على كلمة شكراً في (العلن) خلال هذه السنوات الطويلة.
