
في خضمّ هذه الحياة الجديدة ذات الإيقاع المتسارع التي نعيشها اليوم قد ينسى الإنسان أصدقاءه وأقرباءه لا بل قد ينسى نفسه أحياناً وقد تستمر هذه الحالة أياماً أو شهوراً أو حتى سنيناً إلى أن تأتي لحظة يتذكر فيها نفسه أو حياته السابقة دون سابق إنذار. أما أنا فجاءتني هذه اللحظة بينما كنت أمرّ من أمام بيت يسكنه قريبٌ لي كان يُحسن إليّ وأنا صغير في السن فقرّرت أن أزوره دون موعد مُسبق وما إن لمست جرس الباب وإذا بالباب يُفتح ـ وكأنّ صاحبه ينتظر قدومي وراءه ـ ويخرج منه قريبي قائلاً: أهلاً وسهلاً لقد خطرت على بالي وقررت زيارتك هذا اليوم ولكن وجود ضيف عندي منعني من ذلك وقد صدق من قال: إن القلوب عند بعضها.

وإذا برجل طويل القامة عريض المنكبين أنيق الملبس مظهره يدلّ على سعة في العيش وراحة في البال كان قد سبقني للزيارة عرّفني قريبي له فلم يهتم كثيراً ربّما لصغر سني ومظهري الشبابي في ذلك الوقت فكلّ جيل ينظر إلى الجيل الذي بعده باستخفاف ويعتبر أن جيله هو الذي صنع هذه الحياة فيُنكر عليهم جهودهم ويستخفّ بمنجزاتهم لا بل تصل الأمور أحياناً إلى اتهام الجيل القادم بالتقصير.

عرّفني قريبي على ضيفه قائلاً: أبو محمد جار لنا مُتقاعد أنهى رسالته في هذه الحياة لكنه لم يَصْحُ إلا مُتأخراً فقد ارتكب أخطاء في حياته يُحاول اليوم تصحيحها، قلت له: لا أفهم ما تقول لو سمحت وضّح لي أكثر فتغيرت نبرة صوت قريبي هذا وظهر شيء من الغضب على وجهه وأصبح كمن يُخاطب نفسه أكثر ممّا يُخاطبنا وقال: يحقّ لنا أن نتهم جيلكم بعدم الاستيعاب وتابع قائلاً: أبو محمد أنجب من الأولاد ستة ومن البنات أربع وقد تزوّجوا جميعاً وانشغل كل واحد في نفسه ونسوا والدهم ولم يسألوا عنه بعد وفاة زوجته وبقي يُصارع الحياة وحيداً وهو الآن يندم على ما قدّمه لهم ولغيرهم وخرج من هذه الحياة بتجربة شخصية يقول عنها: الأولاد كالذهب كلما دعكته أكثر يزيد لمعانه وكلما حرصت عليه وخبأته ولم تستعمله كلما انتكس لونه وخف لمعانه.

قال ابن عمي كل هذا الكلام وجاره أبو محمد ساكت لا يتكلم ولا يريد أن يتكلم أمّا أنا فأصبحت متحمساً جداً كيْ أسمع من هذا الرجل شخصياً ولو شيئاً بسيطاً من فلسفته في هذه الحياة ولكيْ أثيرهُ وأشجّعهُ على الكلام فاجأته بالسؤال: أصحيح ما يقوله عنك ابن عمي؟ فنظر إليّ نظرة استصغار ولم ينطق ولو كلمة واحدة وبعد بُرهة من الزمن بدأ يُهيئ نفسه للكلام وعلى الفور أمرت حواسي كلها بالإستماع لما سيقول وإذا به يطلب من ابن عمي سجّادة صلاة بعد أن حان وقتها.

أحضر له ابن عمي سجادة الصلاة وانتحى أبو محمد جانباً وبدأ يُصلي لكن صلاته طالت أكثر من اللازم فنظرت إليه خلسة فإذا به يبكي على سجادة الصلاة فأصبح لزاماً عليّ أن ألفت نظر ابن عمي إليه فقد يكون مريضاً ويحتاج إلى مُساعدة فقلت لابن عمي مُستغرباً: إنّ جارك يبكي على سجّادة الصلاة ربّما حدث له حادث فأبكاه. ضحك ابن عمي وقال: أرجوك أن لا تراقبه أو تهتم به بل اتركه حتى ينتهي من بكائه فقد بدّل البكاء بعد الصلاة بالاستغفار وقبل أن تسألني لماذا يبكي سأجيبك باختصار لكن قبل أن ينهي الرجل بُكاءه.

في كل سنة يقوم هذا الرجل بزيارة للمسجد الأقصى في القدس الشريف للصلاة فيه وبعد أن يصلي يعتقد أن ميزان حسناته قد طفح وأصبح بإمكانه أن يتزوج الآن من بنت قاصر ـ بعد أن يستغل أوضاعها المادّية الصّعبة ـ فيتزوجها ويعيش معها شهراً على الأكثر ويعدها بالسفر معه وبعد أن يصل إلى الكويت يستبدل الفيزا بورقة طلاقها. لم أستطع مواصلة الاستماع فقطعت عليه حديثه بقولي: وكيف يعقد له القاضي القران على بنت قاصر دون أن يراها ويتأكد من أهليتها وموافقتها على الزواج؟.

فقال:إنه يبتكر كل سنة طريقة تختلف عن سابقتها فمرّة يُزوّر شهادة ميلاد عروسته وأخرى يستخدم الرّشوة ويُسميها هديّة، وإذا لزم الأمر يُهدّد القاضي بزميله إذا رفض كتابة العقد، وعندما يعود إلى الكويت يتذكر أعماله المُشينة على سجادة الصلاة فيبكي ليغفر الله له ما تقدم من ذنوبه ويبقى في حالة الخشوع هذه إلى أن يأتي أول الصيف فينسى البكاء والعويل ويكررها ثانية وثالثة ورابعة.
