
كنت طفلاً صغيراً عندما رافقت شيخاً كبيراً في السن من بلدتنا خربة قيسإلى بلدة سلفيت المجاورة لقريتنا في فلسطين في بداية الستينات من القرن الماضي مشياً على الأقدام وفي الطريق قرر الشيخ أن يزيد في ميزان حسناته فأخذ يهديني للتي هي أقوم متهماً مدرسينا بعدم القيام بدورهم الديني واصفاً إياهم بالطبيعيين نسبة إلى مادة الطبيعة وهي مادة الفيزياء في هذه الأيام وحذرني من تعلم العلوم الطبيعية لأنها ستفسد علينا ديننا وياليته يعلم أنني درست الرياضيات من بعده ولم أستمع لنصيحته تلك.

وحذّرني أيضاً من تصديق ما يقول به المدرسون بأن الأرض كروية ونفى أن تكون كذلك ولم يكتف بالكلام فقط بل أشار بيده في الفضاء الواسع وقال:أنظر أمامك يا بني فسترى الأرض منبسطة ولا تشبه البطيخة في شيء كما يقولون ثم أضاف قائلاً: ولم يكتف مدرسوكم بذلك بل انحازوا إلى من تحدوا قدرة الله عندما فكروا بالصعود إلى القمر وبقي مسترسل في كلامه هذا حتى وصلنا بلدة سلفيت عندها نادى المؤذن لصلاة الظهر فقطع الشيخ حديثه وقال لي: هيا يا ولدي نصلي في المسجد سوياً فقلت له: لكنني لم أدخل مسجداً بعد فقال: ما عليك يا ولدي بل عليك أن تفعل كما أفعل ودخلت المسجد لأول مرة بصحبة هذا الشيخ الطيب.

أدهشني مدخل هذا المسجد وأخذت أتفحص وجوه الناس الموجودين فيه وضِعتُ عن شيخي إلى أن وجدت نفسي وحيداً في هذا المكان الجديد فلفت نظري وجود ثلاثة من البراميل الكبيرة المملوئة بالماء وحولها على الأرض أباريق مصنوعة من التنك وبداخل كل برميل منها وعاء صغير من التنك أيضاً ليستخدمه كل من يريد أن يملأ ابريقه لكنني لم أفهم هذا إلا متأخراً فأخذت إبريقاً منها وغطسته في أحد هذه البراميل الكبيرة لملئه بالماء كي أتوضأ منه مثل غيري.

هنا وقعت الواقعة دون أدري واجتمع عليّ رتل من المتواجدين هناك يقودهم خادم المسجد وأخذوا في توبيخي وشتمي ومال بعضهم لضربي وأنا لا أعلم ماذا اقترفت يداي؟ لكن أحدهم تلفظ بكلمة نجاسة ففهمت أنني قد نجّست البرميل كله ولم يعد الماء الذي بداخله يصلح للوضوء وكان أكثر الحانقين مني هو خادم المسجد فكان لزاماً عليه أن يُخرج الماء النجس من البرميل ويملأه بماء طهور مرة أخرى فصاح في الحضور قائلاً: لماذا تأتون بهؤلاء الأولاد الصغار معكم إلى المسجد؟.

حدث كل هذا وأنا مبهور والعيون ترمقني وقد ساد الهرج والمرج في المسجد واختلف المتواجدون فيه في أمري فخادم المسجد وزمرته يريدون طردي من المسجد عقاباً لي على فعلتي النكراء تلك أما أنا فقد جفت الدماء في عروقي من الخوفين: خوف من الناس وخوف من الله فقد جئت متقرباً له لكنني أغضبت نسّاكه فبدل أن أكسب حسنات اكتسبت سيئات وانشغلت في انتظار نوع العقاب الذي سيختاره الله لي وموعد تنفيذه فهل هذا العقاب سيكون في المسجد نفسه أم عند مغادرته؟ وفكرت في الهروب من المسجد للتخلص من هذا الموقف لكنني خفت أن أتهم بأنني جئت للتخريب متعمداً وليس للصلاة وعندها سيلحقوني بأبي لهب وأبي جهل.

وبقيت أعيش حالة القلق هذه إلى أن وصل الأمر إلى شيخي فجاء مسرعاً ليستطلع الأمر فوجدني في حالة يرثى لها فقال: لماذا تركتني يا بنيّ؟ فقلت له: أنت الذي تركتني وحيداً بين هؤلاء الناس الغرباء ثم تابع كلامه لي وقال: ماذا فعلت؟ فقلت له: ملأت الإبريق كما أملأه دائماً من العين أو البئر أو النبع هكذا أنتم تملؤن الأباريق قال: الماء الجاري لا يفسده وضع الإبريق فيه لكن البرميل يا ولدي ليس نبعاً جارياً فقلت له: أنا لم أكن أعلم ما تقول به الآن فقال: خذ إبريقك وأكمل وضوءك وأنا بانتظارك ولا تخف.

أكملت وضوئي ورافقته إلى داخل المسجد وجلس وجلست وجاء خطيب الجمعة وكان أستاذي في المدرسة فهو الذي يدرسني مبحث التربية الاسلامية وعلى الرغم من ذلك لم أسمع من خطبته ولا كلمة بل كنت أتسائل في نفسي: هل علم أستاذي الإمام بما فعلته؟ وإذا علم ما هي ردة فعله؟ هل سيتهمني بالغباء وهو الذي يشهد بتفوقي؟ هل سيعاقبني أمام صفي أم أمام الطابور الصباحي؟ وهل سيكتفي بضربي بالعصا أريع ضربات كعادته أم سيضاعفها هذه المرة؟.
