
زاملته سنة كاملة عندما كان مُدرساً للرياضيات في ثانوية السالمية بدولة الكويت سنة 1975 فكلانا خريج الجامعات السورية ولنا نفس الأفكار والأسلوب والنظرة إلى الحياة فأصبحنا أصدقاء!هكذا بدت لي الأمور في حينها!وكان هذا الزميل في ذلك الوقت شاب طويل القامة أبيض البشرة أحمر الشعر من أب وأم سوريين لكن والده كان قد إكتسب الجنسية الأردنية بعد أن أقام في عمان فترة من الزمن وفي أثناء هذه الفترة وُلد صاحبنا وتوفي والده فيها وهو طفل صغير إلا أن أمه تركت عمان وذهبت لتعيش به في دمشق فهو بالتالي يحمل الجنسية الأردنية عن والده على الرغم أنه عاش طفولته في دمشق ودرس في مدارسها وتخرّج من جامعتها وتزوّج من دمشقية فأصبحت لهجته وثقافته شامية.

لهذا فقد إستغل صاحبنا وضعه خير إستغلال فكان يٌغير جلده في اليوم الواحد أكثر من مرة حسب الموقف فإذا تطلب هذا الموقف أن يكون أردنياً فيصبح أردنياً ويهرب بالتالي من إلتزاماته السورية وإذا تطلب الموقف أن يكون سورياً يصبح سورياً ويهرب من التزاماته الأردنية لم تدم زمالتنا هذه بعد أن نُقلت أنا في بداية السنة الثانية إلى ثانوية عبدالله السالم وبعد سنتين أو ثلاثة إنتقل هو إلى ثانوية صباح السالم وخفت العلاقة بيننا لكنها لم تنته وأصبح لنا أصدقاء مشتركين شكلوا حلقة وصل بيننا ولكنهم كانوا يشكون مرّ الشكوى منه ويتهمونه بالنرجسية والأنانية وقد فشلتُ مراراً وتكراراً في نفي هذه التهمة عنه عند زملائي الذين هم زملاؤه أيضاً لكننا على الرغم من ذلك بقينا أصدقاء.

بعد بضع سنين إنتقل إلى المدرسة التي كنت أعمل بها ولكن رئيساً لقسم الرياضيات هذه المرة وعادت للصداقة لحمتها لا بل أصبحت بيننا زيارات عائلية ومن طريف القول أن صاحبنا هذا لا يحب التدخين ولا المدخنين (هكذا كان يظهر أمامي في المدرسة) فكان يطالبني ليلاً نهاراً بعدم التدخين في الغرفة إلى أن اكتشفت من زيارتهم العائلية لنا في البيت أن زوجته تدخن لكنه بعد هذه الزيارة كفّ عن مطالبتي بعدم التدخين لأنه كان قد عرف جوابي له لو طالبني بذلك وهكذا نحن نريد من الآخرين تطبيق القوانين ونعفي أنفسنا من تطبيقها.

وفي صيف عام 1990 سافر صاحبنا إلى سوريا وترك مفتاح شقته وسيارته معي أمانة وطلب مني أن أذهب إلى شقته وأفتحها وأسقي له ما بها من نباتات داخلية وأشغل سيارته مرة واحدة في الأسبوع ولسوء الحظ جاءت حرب الخليج فضاعفت من مسؤوليتي تجاهه وتجاه بيته فقد تُسرق شقته أو سيارته في هذه الفوضى العارمة التي أعقبت هذه الحرب لكن هذه الفترة لم تطل فقد حضر وزوجته إلى الكويت أثناء الأزمة وتصرف بشقته وأخذ ما يريده منها وباع سيارته وسافر ثانية إلى دمشق.

ودارت الأيام فبعد تحرير الكويت وعودتها إلى أصحابها لم يصبح مرغوباً بنا فيها فتركتُها وعدت إلى عمان وأقمت فيها فأصبحت دمشق قريبة جداً بالنسبة لي وفي يوم من الأيام خطر في بالي أن أتسوق من مدينة دمشق وعندما وصلتها تذكرتُ أن لي صديقاً فيها لا بد من زيارته سألت عنه فلم أفلح في العثور عليه فاستعنت بدليل الهاتف فوجدته واتصلتُ به فردّت علي زوجته ولم يُكلمني هو وعندما سألتها عنه قالت:ستراه عندما تحضر إلى عنده وأعطتني العنوان وذهبت إلى بيته.

وعندما وصلته لم يُكلمني بل سلم عليّ وهو صامت لكن زوجته إستلمت دفة الحديث عنه واستعرضت لي قصته باختصار فقالت:كان كغيره من الناس الذين رفضوا العمل والإندماج في المجتمع الجديد الذي وجدوا أنفسهم به بين يوم وليلة بحجة ضآلة المرتبات الجديدة فقد تعودوا على مرتبات الكويت العالية وتعودوا على وظائف ليس لها وجود في بلدانهم الأصلية وتعودوا كذلك على حياة الإستهلاك والرفاهية وبدؤوا ينتظرون عودتهم إلى الكويت بعد أن ظنوها قريبة.

وأخذ صاحبنا كمثله الكثير من الناس الذين كانوا ينتظرون عودة الكويت إلى أصحابها كي يعودوا معهم أو بعدهم ولما عادت الكويت لم يعد صاحبنا لا معهم ولا بعدهم لأنه أردني الجنسية وكان الكويتيون وقتها قد صنفوا الأردن من دول الضد!أي الدول التي كانت قد ساعدت الرئيس صدام حسين ووقفت معه عندما إحتل الكويت وعليه فلن يسمح لرعايا هذه الدول من الإقامة أو العمل أو حتى الدخول إلى الكويت بينما سُمح لزملائه من السوريين بالعودة والإلتحاق بأعمالهم هناك.

وكان في فترة إنتظار عودته إلى الكويت قد صرف كل ما معه من فلوس وأصبحت حماته هي التي تصرف عليه عندها مرض نفسياً وأصبح لا يُكلم أحداً وعندما ساءت حالته أكثر حاول قطع شريان يده كي ينتحر لكننا تمكنا من إنقاذه في آخر لحظة وهو كما تراه مكتئباً لا يكلم أحداً أرجوك إذا كان بالإمكان تشغيله عندكم في عمان فستكسب به وبنا أجراً عظيماً لا سيما أن أولاده بدؤوا يقتربون من الجامعات.

وعدتها خيراً وعدت إلى عمان وفي نيتي مساعدته لكن من يعرفني عن قرب يشهد لي بأنني لم أطلب واسطة أحد لأي أحد لكنني تجرأت هذه المرة وطلبت فالذي أطلب منه المساعدة من أصل شامي وقد يتعاطف معه أكثر من غيره فعرضت عليه الأمر فقال:لا مانع من حضوره فلدينا له شاغر فاتصلت به تلفونياً وحضر في الحال واستضفته في بيتي لأنه لا يملك أجرة الفندق وأحضرته معي في اليوم التالي للمدرسة وعرفته على إدارتها.

وعندما وجد صاحبنا أن الإداريين من أصل سوري قرر أن يدخل عليهم من الشباك بدلاً من الباب الذي كنت قد أدخلته منه والتقى بالمسؤولين في بيوتهم دون علمي طالباً منهم أن يحل مكاني في المدرسة وعندما رفضوا طلبه ولم يحصل على ما يريد تذرع وخرج عن تقليد الكلية التي أعمل بها وهو على كل من يريد العمل في هذه الكلية أن يتقدم إلى إمتحان تحريري في المادة التي سيدرسها ورفض صاحبنا أن يدخل هذا الإمتحان بحجة أنه مجاز من الجامعة ولا أحد يمتحنه بعد هذه الإجازة وانطلى عليّ الأمر الذي كان قد فعله من ورائي.

أما أنا فقد أخذت الموضوع بنية حسنة وقلت في نفسي إن صاحبنا لا يميز بين الغرور والثقة بالنفس واستنجدت بزميل لي كان قد ترك العمل في الكلية وعمل في مدرسة أخرى فأكرمنا هذا الرجل وعينه في مدرسته واستأجر صاحبنا شقة مفروشة أجرتها تقترب من راتبه وحضرت زوجته وإبنته لزيارته في عمان وعندما ذهبتُ لزيارتهم وجدتها تقارن وضع زوجها بوضعي من حيث الراتب والسكن وغير ذلك واقترحتْ على زوجها أن يعمل تاجر شنطة بين دمشق وعمان ليعوض فرق المرتب بيني وبينه وجعلتني منافساً لهم بدلاً من أن أكون مساعداً.

وبعد أن عادت زوجته إلى دمشق لم يسأل عني فذهبت إلى سكنه كي أسأل عنه فقالوا لي أنه ترك السكن ولا يعلمون عنه شيئاً ونسيت الموضوع بكامله وبعد فترة من الزمن حضر الموجه عندي وإذا به يسألني ضاحكاً:أتسمع بمن أحضر المكتوب لقطع رأسه؟قلت له:لا قال:هو أنت يا بطل صاحبك الذي كنت قد أحضرته معك من دمشق يريد أن يدرس التوجيهي فقط أي يريد موقعك في الكلية بعد هذه السنين التي قضيتها عندنا بحجة أنه كان رئيسك في العمل في دولة الكويت واستعيب على نفسه أن يدرس صفاً أدنى من صفك فوجئت بما قاله لي الموجه وفوجئت أكثر في إختفائه المفاجئ.

وبينما كنت جالساً في غرفة المعلمين وإذا بصاحبنا يعود بعد هذا الغياب الطويل ليس إلى بيتي الذي إستقبلته فيه وإنما إلى الكلية وعندما دخل غرفتي فوجئت بوجوده في عمان بعد هذا الغياب الطويل وقبل أن أسمع منه ما يريد فاجأته بسؤال أصريت على إجابته وكان هذا السؤال:هل أنت موجود في عمان طيلة هذه الفترة؟قال:نعم وأنا الآن مديراً لإحدى المدارس فيها!فقلت له:أحسنت وماذا تريد مني؟قال:مدرستكم سباقة في طبع الكشوف والشهادات باستخدام الكمبيوتر وأريد منك أن تتوسط لي عند الإدارة كي يعطوني البرنامج الذي يعملون عليه لأنني أريد أن أطور مدرستي بعد أن أصبحت مديراً لها.

قلت له:أسمعت بقصة الصبي والحيّة؟قال:لا فقلت له:في قديم الزمان كان طفل يأكل لبناً وإذا بحية تتقدم نحوه لكنها كانت جائعة وبردانة فأطعمها اللبن وغطاها بقميصه وعندما شبعت هذه الحية واستدفأت قامت على من أطعمها ولدغته وأنا مثل ذاك الطفل فلم أصدق ما كانوا يقولون لي عنك الزملاء في الكويت لا بل كنت أدافع عنك لكنني اليوم إكتشفت سذاجتي وخطأي وهم كانوا على صواب فيما كانوا يصفوك فقد أبلغني الموجه ما كنت تسعى إليه ما أصعب أن يكون الإنسان مغفلاً يا صاحبي كل هذه السنين وعندما فهم أن ألاعيبه لم تعد تنطلي على أحد خرج دون أن يودعني.

عرفتو الحين ليش ما ردينا الفلسطن والاردنيين الكويت؟ لان كلهم عضو الايد اللي اتمدت لهم .
إعجابإعجاب