وأخيراً جاء أول يوم دراسي من العام 1959 ليجعلني في الصف الثالث الابتدائي في مدرسة مزارع النوباني و عارورة الثانوية بعد أن انتظرت قدومه على أحرّ من الجمر وهنا يجب عليّ أن لا أترك البعض منكم خاصة في هذه الأيام في حيرة من أمره كي يسأل نفسه مُستغرباً: كيف يمكن لطالب أن ينتظر الدوام المدرسي ويُفضله على العطلة المدرسية؟ وسأجيب هذا السائل قبل أن يسأل: إنني كنت أجد نفسي في المدرسة لأنني كنت مُتفوقاً على زملائي بينما زملائي يتفوقون عليّ بزراعة الأرض التي لا أستطيع تحمل مشقتها فأنا لا أجيد العمل بالأرض الذي يجب على كل من يعيش في القرية أن يتقنه.

صحوت مبكراً في هذا اليوم على غير العادة لأبدأ رحلتي الطويلة والمُتعبة من قريتي خربة قيس إلى مدرسة مزارع النوباني وعارورة الثانوية فقد كان لزاماً عليّ أن أمشي طريقاً وعرًا شديد الانحدار يمتد من سفح جبل إلى أسفله وأقطع واديًا ثم أتسلق جبلاً آخر أكثر ارتفاعاً وأشد وعورة من الأول حتى أصل إلى تلك المدرسة وما أن وصلتها حتى ضُرب الجرسُ الذي كان قذيفة مدفع مفتوحة من الطرفين مربوطة بسلك من الحديد ومثبتة في واجهة المدرسة الأمامية يضربه من يستطيع حمل عصا حديدية عدة ضربات متتالية واصطف الطلاب في طابور الصباح بعد أن أخذ كل طالب موقعه في صفه الجديد.

وعلى الفور حضر مدير المدرسة في ذلك الوقت وافتتح العام الدراسي الجديد بكلمةٍ موجزةٍ رحّب من خلالها بالمدرسين والطلاب وطلب من كل طالبٍ أن يقص شعره ويقلم أظافره ويُحضر معه الرسوم المدرسية المطلوبة في اليوم التالي وأنهى كلامه قائلاً: الحاضر يُعلم الغائب أي لا عُذر لأحد حتى ولو كان غائباً وستكون العصا لمن يعصي الأوامر حيث قالها بلهجة لا تخلو من التهديد والوعيد أما أنا فلم أهتم بما قاله المدير لأن ما كنا قد بعناه من عنب راس زيد كان يكفي لتسديد هذه الرسوم لا بل يزيد عنها قليلاً وكان في ذلك الوقت أكبر همّ للآباء هو تدبير الرسوم المدرسية لأولادهم وهي بحمد الله متوفرة حيث كانت والدتي قد أعطتني الرسوم المدرسية لدفعها من أول يوم دراسي وكانت قد اشترت لي ملابس مدرسية جديدة وأشرفت بنفسها على قصّ شعري وأظافري ونظافتي الشخصية.

بعد ذلك دخل الطلاب إلى صفوفهم ودخلت معهم وجلست على مقعد مزدوج لا على التعيين كان قد سبقني إليه طالب آخر وعندما تكلمت معه وجدته أخرساً لا يتكلم وما هي إلا دقائق حتى حضر سكرتير المدرسة وبيده اليُمنى حوالي عشرة كتب جديدة وفي يده اليسرى حوالي عشرون كتابًا قديمًا باليًا يُريد توزيعها عشوائيًا على طلاب الصف عندها تمنيت أن يكون كتابي جديدًا ولم أكن أعلم بأن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.

وبدأ السكرتير بتوزيع الكتب الجديدة أولاً فانتهت عند زميلي الأخرس عندها تيقنت أن كتابي سيكون قديمًا فتنازلت وأقنعت نفسي بأن قلت: هناك كتاب قديم يبدو كالجديد أحياناً وهذا يعتمد على من استخدمه قبلي في السنة الماضية وأخيراً صحوت من حلمي هذا على كتابٍ وُضع أمامي أقل ما يوصف به أنّه ليس بكتاب فهو بلا غلاف وصفحاته مُمزقة وليست كاملة وإذا وُجدت بعض الصفحات الكاملة فهي مطموسة بكتابات غير مفهومة علاوة على أن حجمه مضاعف وكأنه قد خرج لتوه من بركة ماء.

وهنا قررت في نفسي أن أستولي على كتاب زميلي الأخرس ظنًا مني أنه سوف لن يدرك أن كتاباً من كتبه قد نقص وما أن انتهت هذه الحصة حتى بدأت حالة من الفوضى المؤقتة في الصف قبل أن تبدأ الحصة التي بعدها فغافلته واستوليت على كتابه وكان كتاب العلوم وفتحت أزرار قميصي ثم أدخلت الكتاب وأقفلت عليه دون أن يشعر أحد وعندما بدأت الحصة دخل الأستاذ وبحركة عفوية أخرجت كتبي ووضعتها على المقعد لكي أختار منها الكتاب المناسب.

وما كان من صاحبي إلا أن فعل مثلما فعلت وبلمح البصر قارن بين كتبه وكتبي فاكتشف عدم وجود كتاب العلوم من بين كتبه فرفع الأخرس يده مستأذنًا وبدأ يُصدر أصواتاً وإشارات غير مفهومة فاقترب منه الأستاذ أكثر فأكثر ليفهم ما يقول وأعاد الأخرس أصواته وإشاراته مرة ثانية ولم يفهم الأستاذ منه شيئاً فما كان منه إلا أن غضب وانقضّ على كتبي وأخرج منها كتاب العلوم ودفع به في وجه الأستاذ ففهم الأستاذ أخيراً أنه فقد كتاب العلوم من كتبه فقطع الأستاذ الحصة وقال لنا: زميلكم هذا فقد كتاب العلوم على كل طالب أن يتفقد كتبه جيداً ومن يجده يسلمه إلى صاحبه وتنتهي المشكلة.

حدث هذا المشهد خلال خمس دقائق لكنها بالنسبة لي تساوي دهراً فلا أحد يعلم ما حدث غيري فقد جال في خاطري أن أريح وأستريح وأعترف أمام الجميع بما حدث وتنتهي هذه المهزلة ولكن هل سيغفر لي أستاذي وزملائي؟وإذا غفروا لي ما هي الصفة التي سأحملها للأبد؟ فقررت الإستمرار وعندما تفقد الطلاب كتبهم لم يظهر الكتاب فقال الأستاذ: كل طالب يضع أغراضه فوق سطح مقعده وبدأ في تفتيش الطلاب واحداً تلو الآخر وعندما وصلني قفز عني ولم يُفتشني لأنني برأيه على خلق واجتهاد عظيمين ولا يمكن أن أقوم بهذا العمل واستمر في التفتيش ولم يعثر على الكتاب وانتهى الموضوع.

دق جرس الفرصة وكنت أنتظره على أحر من الجمر فأسرعت متجهاً إلى أحد كروم العنب البعيدة عن المدرسة وحفرت حفرة ووضعت الكتاب فيها وغطيته بالتراب وميزت المكان جيداً وعدت إلى المدرسة بسرعة قبل أن يراني أحد وإذ بمجموعة من الطلاب ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لم يجدوا مكانًا يلعبون فيه إلا ذلك الكرم ثم تلتهم مجموعة أخرى كانت تطاردهم والتقى الجمعان فوق الكتاب المدفون تمكن أحدهم من آخر ورماه أرضًا وتجمعوا فوق بعضهم البعض وتجمع الجميع فوق الكتاب وانتهت المداعبة بينهم بظهور الكتاب.

عندها أوقفوا اللعب وسأل أحدهم: من أين أتى هذا الكتاب؟ وسأل آخر: كيف وصل إلى هنا؟ وبينما هم يتساءلون خطفه أسرعهم جريًا وكان من أصدقائي وسلّمه إلى الأستاذ المناوب وظل يبحث عني حتى وجدني ليخبرني بما حدث معه وزملائه فجاملته في سماع القصة ولسان حالي يقول: إذا قدّر الله لك شيئاً فلن يكون لأحد غيرك وضُرب الجرس بعد نهاية الفرصة واصطف الطلاب قبل الدخول للحصة الرابعة وإذا بالأستاذ المناوب يرفع كتاب العلوم هذا عاليًا ويقول: من منكم أضاع كتابه هذا ورفعه بيده عالياً لكي يراه الجميع عندها رأى الأخرس الكتاب فهرول إلى الأستاذ مسرعاً وأخذ كتابه وهمهم بكلمات لم أفهمها حتى الآن!.

ذكريات في بلدنا