
حدّثني شيخ كبير في السن عن نفسه فقال: في يوم من الأيام ألحّ عليّ ولد لي أن أخرج معه في نزهة برية مشياً على الأقدام فما كان مني إلا أن حاولتُ التهرّب من هذا المشوار بعد أن تذرعتُ له بالعمل ومتاعبه ومشاغله لا بل طالبته أن يقوم بتأجيل نزهته هذه إلى يوم الجمعة لنخرج سويّاً مع والدته وإخوانه فرفض ذلك الولد رفضاً قاطعاً أن يكون معنا أحد وتنحى بي جانباً وقال: أنا لا أريد النزهة يا والدي بقدر ما أريد أن أنفرد فيك وحيداً كي أتحدث معك في أمر يخصني وحدي.

حيّرني إصرار هذا الولد على هذه الرحلة مُنفرداً دون اخوته وتساءلتُ في نفسي: هل هو دلال الولد على أبيه أم هي حاجة في نفسه يُريد قضاءها وأنا لا أعلمها؟ لا بل تساءلت أكثر من ذلك بكثير بأن قلت في قرارة نفسي: هل يستطيع الولد في مثل هذا السن أن يُحدّد هدفاً شخصياً له دون اخوته ثم يسعى لتحقيقه منفرداً؟ وهل يوجد للولد مهما كان سنه قرون استشعار يستطيع من خلالها أن يميز مصالحه الشخصية عن مصالح اخوته ويكتشفها مبكراً ثم يسعى لتحقيقها؟ للإجابة على هذه الأسئلة التي دارت في مُخيلتي قررتُ أن أقوم بهذه الرحلة المطلوبة مستجيباً لطلبه هذا كي أحاول أن أكتشف ما بداخله من أفكار.

لهذا اخترتُ طريقاً فرعياً خالياً من المارّة لا يسلكه إلا صاحب حاجة وما أن بدأنا رحلتنا وإذْ بطائر أسود يطير من أمامنا فجأة فوجئ الولد ولم أًفاجأ أنا بالغُراب وهو يمرّ من أمامنا ويسير بمحاذاتنا لفت نظره ذلك الطائر الأسود الذي حاول مُرافقتنا دون خوف ولا وجل وهو لا يعلم أن رؤية الغراب لوحدها نذير شؤم فما بالك إذا رافقنا؟ فتشاءمتُ من هذه الرحلة من بدايتها وكم تمنيتُ انتهاءها لكنني حفاظا على مشاعره لم أبح له بهذا الكلام بل تركتُ له اتخاذ مثل هذا القرار.

فجأة وبنشوة المُنتصر والآمر الناهي قال: نريدُ العودة إلى البيت فرحتُ بهذا القرار الذي انتظرته منذ رؤيتي لهذا الغراب وعندما عُدنا إلى البيت لم يستقبلنا أحد من إخوته كعادتهم بل كانوا مُجتمعين مع أمهم في غرفة واحدة وكأن الطير تقف على رؤوسهم وما كان منه إلا أن اقتحم عليهم مجلسهم هذا وتظاهر بالفرح والسرور وسمعته يقول لإخوته: لقد اختارني والدي من دونكم وأخرجني في نزهة طويلة شاهدتُ فيها طيوراً وحيوانات جميلة بعد ذلك اشترى لي حلوى لذيذة وأكلتها وأنا في طريقي إليكم.

ازداد غضب إخوته لقيامي بهذه الرحلة التي لا يعلموا أنها كانت مشؤومة وغضبتْ معهم أمّهم وأعطتني درساً عنوانه التمييز بين الأولاد وأصبح إخوته وأمّه يُنادونه بإبنُ أبيه فتساءلتُ في نفسي: هل يمكن أن يستغلّ ولد أباه أو أمه ليتميّز على إخوانه؟ وتنحيتُ بالولد جانباً وسألته: هل أنا الذي اقترحتُ عليك هذه الرحلة يا بني؟ قال: لا وهل رأيت في رحلتك غير الغراب الأسود؟قال: لا وهل اشتريتُ لك حلوى؟ قال: لا فلماذا ادّعيت كل هذا أمام والدتك وإخوانك؟ فلم يجب ذلك الولد على سؤالي الأخير وبقي صامتاً لا يتكلم.

ودارت الأيام وشبّ ولدي وشِختُ أنا وفي أحد الأيام تعرضتُ لوعكة صحّية فحضر ذلك الولد لينقلني الى المستشفى وعندما هممتُ بالركوب في سيارته مرّ غراب من أمامنا وفي الحال تذكرتُ ذلك الغراب الذي حاول مرافقتنا عندما كان ولدي صغيراً لكن ولدي لم يعد يتذكر تلك الحادثة البعيدة فقلت له: ما اسم هذا الطائر يابنيّ؟ فأجابني بصوت عال ومظاهر الاستياء بادية على ملامح وجهه وبدون كلمة يا أبي قال: هذا اسمه غراب ومن يراه في بداية رحلته؟ لن يرى خيراً في نهايتها وقالها ولم يُحافظ على مشاعري كما حافظت على مشاعره وهو صغير وتابع كلامه قائلاً: عسى الله أن يُريحنا وإيّاك وطلب مني أن أقول آمين ظناً منه أنني لم أعد أفهم الحوارالذكي.

فجأة توفيت والدته وكان إخوانه وأخواته في الخارج فلم يحضروا لدفن والدتهم وكانت وفاتها نكسة لي لم يخفف وقعها عليّ غير تديّنه فقد أصبح لا يُصلي إلا في المسجد ولا ينطق الا بآية قرآنية أو حديث شريف فجأة اختاره الناس إماماً لمسجدهم وأصبح يحل مشاكلهم ويستفتونه في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم وأصبح مُطيعاً لي فوق العادة لا بل أصرّ على أن أترك بيتي وأسكن مع زوجته وأبنائه برغم ضيق مسكنه.

وفي أحد الأيام جاءني هذا الولد حزيناً مهموماً واقترب مني حتى أن لحيته الطويلة قد لامست وجهي وقال: إخوتي كلهم يعيشون بالخارج وأنت قد كبرت في السن وخفّت قدرتك على مُقارعة الناس والعباد أريد منك أن تتنازل لي عن كل ما تملك وتريح نفسك كذلك من المعاملات الرسمية ومقارعة دوائر الدولة وتنشغل في العبادة بعد أن قدمت لنا الكثير في حياتك فقلت له: يا بنيّ الناس كلهم يعلمون أنك تنوب عني في الأفراح والأتراح.
ردّ عليّ قائلاً: لا يكفي معرفة الناس بذلك بل الذي يكفي هو معرفة كاتب العدل أريدُك أن تذهب معي وتوقع عنده صكّ التنازل وفعلاً حدث ما أراد فخلال خمسة دقائق كنت قد تنازلت له عن كل شئ وبعد التوقيع أخذني إلى إحدى مكاتب السفر وقال لي: أولادك في الخارج بانتظارك يا والدي العزيز ولن أكون أنانياً وأمنعك من السفر فقد حجزتُ لك في الباص وليس في التكسي لأنه رخيص عليّ وأريد منك أن تسلم على إخواني وأخواتي جميعهم.

فقلت له: يا بنيّ إنني اكتشفتُ أنانيتك منذ أن كنت صغيراً كما اكتشفت أم حاتم الطائيّ ابنها الأصغر فبعد وفات ابنها الأكبر حاتم انبرى أخوه الأصغر ليملأ الفراغ الذي تركه حاتم فلما رأته أمه وهو يُحضر نفسه لسد الفراغ قالت له: أرح نفسك يا بنيّ فلا يمكن أن تملأ فراغ أخيك لأن أخوك حاتماً كان يرفض أن يرضع من ثديي إلا ومعه طفل آخر أما أنت يا بني فكنت لا تقبل أن ترضع مني إذا كان معنا في الغرفة أحد غيرك والفرق الوحيد بيني وبين أم حاتم أنني انخدعت في طول لحيتك وخدعني الناس أكثر منك عندما اختاروك إماماً لمسجدهم.

ساعدني ولدي في الصعود على درج الباص وبعد أن دخلنا مقصورة الباص أجلسني على الكرسي فقلت له: يا بنيّ ألم تسمع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك؟ قال: بلى يا والدي لكنه لم يقل يا أبت العزيز أن زوجتك ومالها لأبيك؟ فأنا كنت قد تنازلت لزوجتي عن كل ما أملك قبل أن أطلب التنازل منك عن كل ما تملك كي أقدم نفسي لإخواني بأنني فقير على باب الله لا أملك شيئاً من الأراضي والعقارات وبذلك أكون قد قطعت عليهم خط الرجعة فيما لو فكر أحدهم في مُقاضاتي أمام القضاء.

وكما تعلم أو لا تعلم لا أدري يا والدي العزيز أن الله يقول في كتابه العزيز: إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأنا والحمد لله لم أشرك به بعد بل على العكس تماماً فقد سجّلتُ لأداء فريضة الحج وزيارة الأماكن المقدسة لهذا العام أنا وزوجتي وبما أنني إمام لمسجد فلي الأولوية على الناس أجمعين ولا أنتظر الدور الذي ابتكروه لنا في هذه الأيام وبصراحة أكثر كنت أنتظر سفرك لأحج أنا وزوجتي معاً فوجودك معنا كان يؤخر هذه الرحلة المباركة.

ودّعني ولدي وانطلق الباص في رحلته وبدون أن أشعر رجعت بتفكيري للوراء وبدأتُ أراجع نفسي عن ما فعلته مع والدايّ بعد هذه المدة التي جعلتني أنسى فتذكرتُ أخيراً عندما جاءت أمي للسكن معنا أنا وزوجتي فرفضت زوجتي ذلك وقالت بالحرف الواحد: إما أنا أو أمك في هذا البيت وكانت زوجتي أما أمّي فقد أسكنتها عند أخت لي متزوجة من ابن عم لها وعندما تقدم فيها السن وعجزت عن خدمة نفسها بنفسها لم يتحملها زوجها فردّوها لي ثانية وقالوا لي: أنت أولى في أمك شرعاً وقانوناً فرفضت زوجتي أن تسكن معنا ثانية ولم أجد أمامي إلا أن أعرضها على أختي الثانية وزوجها الغريب.
