
في طفولتي كانت الثقافة السائدة في ذلك الوقت هي ثقافة تقبيل الأيادي وكان المثل السائد بين الناس الذي يقول اليد التي لا تقدر عليها بوسها وكانت مثل هذه الثقافة قد سادت بين الحاكم والمحكوم في عهد الخلافة التركية وامتدت إلى ان استخدمها القوي مع الضعيف وترسخت في ذاكرتنا الشعبية حتى أنها أصبحت جزءاً من تراثنا أثناء وبعد الخلافة التركية وامتدت أكثر حتى وصلت إلى كافة أفراد الأسرة وانتشرت وتوسعت إلى أن وصلت إلى جميع أفراد المجتمع ومنهم تعلمت تقبيل الأيادي كل الأيادي فكان لزاماً عليّ أن أقبل يد كل من هو أكبر مني سناً من أقاربي ومعارفي وحتى جيراني ولم يقتصر الموضوع على بوس الأيادي فقط بل صاحبه ركوع وخنوع حتى وصل بهم الأمر إلى بوس الأقدام وأشياء أخرى يعرفها القاريء.

وفي فترة شبابي ذهبت ثقافة تقبيل الأيادي وحلت بدلا عنها ثقافة الصياح وكنت قد تعلمتها عندما كان لي حق عند صاحب عمل فذهبت لمديري المباشر وطالبت به فتعاطف معي هذا الرجل وقال لي: إفهم يا بني إذا لم يصيح الطفل فلن ترضعه أمه وعليك أن تصيح كما يصيح الديك كي تصل إلى حقك وفعلا صحت فحصلت على حقي وفي حينه تعجبت مما سمعت وقلت في نفسي: هذا كلام كبير فيه تجني على الأمهات فالأم ترضع وليدها في مواقيت معينة بكى هذا الطفل أو لم يبك لكن مفهوم هذا المثل تغلب على ما دار في رأسي آنذاك.

وفي فترة شيخوختي لم تعد مثل هذه الثقافات التي كانت سائدة مثل تقبيل الأيادي ثقافة الصياح تجدي نفعاً مع الحكام العرب بعد أن كثر مُقبلوا الأيادي والأقدام وتورمت أيدي الحكام العرب وأقدامهم من كثرة التقبيل وزاد عدد الصائحين فأدمنت آذان الحكام العرب صياح شعوبهم ولم تعد تسمع أو تميز نوع ذلك الصياح وأهدافه وأمام هذا الواقع الجديد لم يجد (محمد بو عزيزي) إلا أن يخترع ثقافة ثالثة جديدة على مجتمعاتنا كانت محرمة شرعاً وديناً وقام بحرق نفسه في تونس كي يسمعه الحاكم وفهم الحاكم الرسالة وخرج من عرينه وغادر بلاده بعد أن جعلها خاوية على عروشها.
