
خلق الله الناس جميعاً من ذكر وأنثى، بعقول مُختلفة، وبأرزاق مُتفاوتة، لا بل رفع بعضهم على بعض درجات، فكان منهم الغني والفقير، وكان منهم القوي والضعيف، وكان منهم الحاكم والمحكوم ، والظالم والمظلوم، والعالم والجاهل، لكنهم جميعاً يتساوون عند المرض، ويختلفون في ردّة الفعل تجاهه، لأن المرض، يجعل الإنسان أكثر طهراً مما كان عليه، في حياته العادية، ففي الصحة يكون الإنسان مُتّسخاً، يطلب ويريد كل شيء لنفسه، ويبقى كذلك، إلى أن يأتي المرض، ويأخذ منه كل ما إكتسبه مرة واحدة.

وستكون أول ردة فعل، يقوم بها هذا المريض، تجاه مرضه، هي تذكر كل صغيرة وكبيرة في ماضيه، كي يقارن ماضيه بحاضره، وهو يرقد على فراش المرض، فأول ما يخطر في باله، أنه قبل أن يقعده المرض، كان إذا عطس من نزلة برد مثلاً، يجد الجميع حوله والكل يريد خدمته ورضاه، لهذا فأول شئ يقوم به المريض، هو تفقد كل هؤلاء الناس، الذين مروا في حياته، واحداً تلو الآخر، ويتذكر كل الأسماء التي كانت تحيط به قبل مرضه، ويسأل نفسه عن هؤلاء الناس بالإسم.

بعدها تنشأ عند المريض، أزمة نفسية داخلية حادة، تولد عنده كثير من الأسئلة الفلسفية التي هي في غاية الأهمية، بعضها يعرف إجابته، والبعض الآخر لا يعرف له إجابة، فيصبح هذا المريض، بحاجة ماسّة إلى من يُجيبه على أسئلته تلك، دون أن يسألها، لأن مرضه قد يفقده القدرة على الكلام، فيخونه لسانه، عن التعبير عما يريد قوله، عند ذلك يستعين بعينيه لتنوب عن شفتيه في الحوار، مع من يريد، ممن هم حوله، ويصبح مُستقبِلا فقط، ولا يستطيع أن يرسل ما يجول بخاطره، أو بما يفكر به، فيبدأ بسؤال نفسه، بعض الأسئلة الصعبة، التي لم يعتد ان يسألها، لا لنفسه، ولا لغيره، قبل مرضه.
وسيكون أول هذه الأسئلة: لماذا أمرض أنا من دون خلق الله؟ ولماذا أمرض اليوم، وليس غداً، أو بعد غد؟ وهل أنا أعاقب على فعل كنت قد فعلته في الماضي، أم هي لعبة طاق طاق طاقية، أم هي خبط عشواء من تصب؟ ومنهم من يقتنع بمرضه، ويستسلم له، ويعتبره شهادة تفوّق على غيره من الناس، فهو ــ برأيه ــ الأكثر إيماناً بين الناس، لهذا سيكون الأشد بلاءً.

ثم تبدأ عند هذا المريض مشكلة فلسفية أعمق من الأولى، عندما يرجع إلى أعماق نفسه أكثر، ويطرح عليها أسئلة أخرى عن معنى الحياة والوجود ليبدأ بعدها بمراجعة الجدوى من وجوده في هذه الدنيا، وذلك بالإجابة على السؤال الكبير المهم وهو: لماذا وُجد في هذا العالم؟ وهل هذا العالم سيتغير عندما يفتقده؟ وهل هذا التغيير سيكون سلبياً أم ايجابياً؟ وفي كلا الحالتين سيعود من حيث بدأ فإذا كان وجوده إيجابياً فلماذا يموت إذن؟ وإذا كان وجوده سلبياً، فلماذا وُجد أصلاً؟ثم يأتي السؤال الآخر الذي يليه، ويسأل نفسه: هل أنجز كلّ الذي كان يرغب في تحقيقه؟ وإذا شفي من مرضه، فهل تعود له طموحاته السابقة؟ وإذا لم يُشفَ من مرضه، هل تبقى في الذاكرة الأفعال التي لم يتمكن من فعلها؟.

وبعد أن ينتهي من أسئلته تلك يحمد الله على مرضه هذا لأن مرضه هو الذي كشف له حقيقة كل من كانوا حوله لكن بعد فوات الأوان فهم سيأتون لزيارته لا تقرباً إلى الله تعالى كما يدّعون ولكن كي يتأكدوا بأنفسهم من حالته الصحية ويطمئنوا بذلك على مصالحهم الشخصية عنده فإذا تأكدوا أن مصالحهم باقية يعودون لزيارته ثانية وثالثة ويُظهرون له كل مودّة وألفة أما إذا اكتشفوا أن مصالحهم عنده قد إنتهت فلا يعودون ثانية لزيارته متذرعين بأعمالهم وأشغالهم الكثيرة إلى أن يعلموا بوفاته.
