النجاح الكاذب


ججججج
جامعة حلب سنة 1970 وهي مغطاة بالثلوج

أيام الدراسة الجامعية في حياة المرء لا تُنسى أبداً، فهي تُحفر في الذاكرة كالنقش في الحجر بحلوها ومرّها، وبجدّها واجتهادها، وأحلى ما فيها البراءة والسذاجة والبساطة وعدم المسؤولية واختصار الأهداف أو تأجيلها إن شئت بهدف واحد وهو إحراز علامة النجاح فقط.

scan10040
اللعب بالثلج 

ومما أذكره جيداً من أيام دراستي الجامعية في كلية العلوم بجامعة حلب عام ١٩٧٠، أنه أصبح عندنا نقص في أعضاء هيئة التدريس في مادة الميكانيك التي كان يدرسها طلاب قسم الرياضيات في كلية العلوم على مدى سنتين متتاليتين، ففي السنة الأولى تسمى مكانيك 1، وفي السنة الثانية تسمى ميكانيك 2، فاستعانت كُلّيتنا بالدكتور زيد الأمير من أعضاء هيئة التدريس في كلية الهندسة لتدريس هاتين المادتين.

Scan11294

رحلة إلى حمامات الشيخ عيسى بالقرب من حلب 

كان الدكتور يُدرّسنا دون أن يكون هناك كتاب معتمد، بل كان مطلوباً منا أن نبحث عن هذه المادة في المراجع العربية والأجنبية التي كان الدكتور يُعينها لنا في المحاضرة الأولى، وكان بذلك يتعبُ معنا ويُتعبنا معه، حتى أن عدد الناجحين في هاتين المادتين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين معاً. ولسد العجز في أعضاء هيئة التدريس تعاقدت الكلية مع الدكتور عبد المسيح لتدريس ميكانيك 2 فيها، وهو دكتور متقاعد من إحدى الجامعات المصرية وقد سررنا جميعاً بهذا التغيير وأنا منهم؛ لأن الدكتور عبد المسيح كان يرى أن الطريقة السورية في التعليم عقيمة ومعقدة فليس كل من دخل الجامعة هدفه تلقي العلم.

untitled
ليس كل من دخل الجامعة هدفه تلقي العلم

كما كان يرى أيضاً أن معظم من دخلوا الجامعة يريدون الحصول على الشهادة فقط، ومن ثم السفر إلى دول الخليج العربي للعمل وتحسين الأوضاع المادية، فلا داعي أن نثقل عليهم في العلم أو نصعّب عليهم الأسئلة، بل علينا أن نعطيهم ما تيسّر من العلوم ليشقوا طريقهم بدون عقد ومشاكل. وفعلاً طبّق الدكتور عبدالمسيح ما كان ينادي به، فكان يكتب لنا الدرس على اللوح ونحن ننسخ ما يكتبه دون أن نفهمه، ولم يزعجنا ذلك لأن أسئلة الامتحان ستكون من هذا الدفتر فقط ولا ضرورة للمراجع.

5592c0d3c46188dc378b45d4

1000 ليرة مكافأة الطالب الذي يحصل على تقدير ممتاز

وفي آخر السنة كانت علامتي 80% وهذا حلم كبير في الجامعات السورية آنذاك، إذ عليّ أن أنبّه القارئ بأن الطالب الذي كان يحرز معدلاً سنوياً يزيد عن 80% يحصل على تقدير ممتاز وتُصرف له مكافأة مالية من الجامعة قيمتها ألف ليرة سورية، ومن يزيد معدله عن 70% يحصل على تقدير جيد جداً وتُصرف له مكافأة قدرها خمسمائة ليرة سورية، ومن يرسب في سنته الجامعية يُضاعف عليه القسط الجامعي ولا يحق له أن يلتحق بسكن الجامعة.

aslan
جاء خصيصاً لإنجاحنا وإخراجنا من فم الأسد السوري 

وتعاقدت الكلية كذلك مع الدكتور إبراهيم رفعت لتدريس ميكانيك1، وكان أيضاً من المتقاعدين من الجامعات المصرية وكان هذا الدكتور يعتبر التدريس نزهة، فعندما دخل المدرج لأول مرة وبعد أن رأى وسمع عن صعوبة الدراسة في جامعتنا الحبيبة قدم نفسه لنا بأنه جاء خصيصاً لإنجاحنا وإخراجنا من فم الأسد السوري (على حد تعبيره)، بأنه صاحب نظرية عالمية تُدرّسها جامعات العالم المختلفة، وتسمى النظرية الرفعتية في الميكانيك، وتعهّد لنا إذا درسناها أن تكون العلاج الشافي والكافي لنا ولأولادنا من بعدنا، وبشّرنا بأننا سنكون جميعاً من الناجحين.

2940516044
ما يشرحه لنا عن بطولاته ونظرياته لا يمت للعنوان بصلة

فرحنا وسُررنا بما سمعنا وقلنا هذا هو التعليم الذي نريده، فقد كان يكتب عنواناً للدرس على اللوح ويكتب اليوم والتاريخ بالهجري والميلادي، ويرسم شكلاً هندسياً على اللوح ليرى القاصي والداني أنه يُعلم. أما ما يشرحه لنا فلا يمت للعنوان بأي صلة، إذ تمحورت مواضيع محاضراته عن بطولاته ونظرياته وعن بنطاله المُخمليّ (كوردروي) الذي كان يلبسه الشباب في ذلك الوقت وكيف اشتراه وكم هو سعره في سوريا، وما هو المبلغ المقابل له في العملة المصرية. وكان يشرح لنا أن له توقيعان أحدهما لا يستطيع أحد تقليده ويستخدمه في المعاملات المالية، وآخر يستخدمه في التعليم ويستطيع الجميع تقليده ويُوضح لنا الفرق بينهما وينشغل الكل في تقليد توقيعه الصعب، وهكذا كانت تمضي المحاضرة دون أن نشعر بها، المهم أننا سننجح في آخر العام.

image20
الشيخ 

في أحد الأيام، كان عنوان محاضرة الدكتور إبراهيم (الاحتكاك) وكان يجلس معنا في تلك المحاضرة في الصف الأول طالب أطلق لحيته ولبس الزيّ الباكستاني، وعلى رأسه طاقية يغطي بها رأسه، لهذا كنا نلقبه بـ (الشيخ) وبجانبه تجلس فتاة ترتدي الزيّ الإسلامي على الطريقة الحلبية (فهي تغطي وجهها بقطعة من القماش الأسود أما إذا أرادت أن تكشفه فترفع هذا الغطاء عن وجهها وتضعه فوق رأسها) وتجلس بجانبها فتاة أخرى لكنها ليست مُحجبة.

the-most-beautiful-girl-in-the-world
فتاة غير محجبة 

بعد أن كتب الدكتور ابراهيم رفعت العنوان على اللوح اقترب من الشيخ والفتاتين وقال: لو لامس الخد ده (وأشار إلى الفتاة المحجبة) الخد ده (وأشار إلى الفتاة الأخرى) لما حصل بينهما أيّ احتكاك، لكن لو لامس الخد ده (وأشار إلى الفتاة المحجبة مرة أخرى) الخد ده (وأشار إلى لحية الشيخ) فيجب أن يتولد بينهما احتكاك، فضحك كل من كان في المدرج واحمرّ وجه الفتاتين اللتين أشار إليهما الدكتور بيده وفي الحال غضب شيخنا فوقف وقال: “أرجو يا دكتور أن تتسم المحاضرة بشيءٍ من الجدية”. 

www-St-Takla-org-Men-02-Running-Competition
شيخ يجري ومن ورائه دكتور عجوز يريد الإمساك به 

وقبل أن يُنهي الشيخ كلامه هجم عليه الدكتور ليضربه، فهرب الشيخ إلى خارج المدرج مسرعاً والدكتور يلاحقه ليمسك به، وأخذا يتلاحقان في ممرات الكلية وخرج الطلاب من محاضراتهم ليشاهدوا هذا المنظر الغريب (شيخ يجري ومن ورائه دكتور عجوز يريد الإمساك به ونحن نجري وراءهما لنفصل بينهما) وبقينا على هذا الحال إلى أن تدخّل العميد وأخذ الدكتور إلى غرفته وألغى محاضرة ذلك اليوم. بعد أن فهم العميد ما حصل وما كان يحصل أثناء محاضرات الدكتور رفعت، قام بتكليف الدكتور زيد الأمير بوضع أسئلة الإمتحان وكانت الفاجعة الكبرى! فقد رسبت في هذه المادة إلى سنة التخرج، وأخيراً نجحت فيها بمعدل %50. فيا أبنائي الطلبة لا تفرحوا للنجاح الكاذب الذي يُعطيه لكم من لا يريد أن يُعلّمكم.

الدنيا حكايات